يعد دور الدولة عاملاً مهماً ورئيساً في تحقيق التنمية، والحرية الاقتصادية المنضبطة بضابط العدل، بالصورة التي تمكنها من توفير حد الكفاية والرفاه لرعاياها، قياماً بدورها في رعاية مصالح الناس الدنيوية والأخروية بمقتضى شرع الله من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
فإذا كانت التنمية الاقتصادية تبدأ في النظام الاقتصادي الإسلامي من الفرد أو القطاع الخاص، فإن دور الدولة يظهر واضحاً جلياً في توفير البيئة المناسبة لتحقيق تلك التنمية، من خلال تنظيم الحياة الاقتصاديَّة، وتوجيه المشروعات الخاصة إلى ما يكفل تحقيق المصلحة العامة، واتخاذ الإجراءات التي تحقق بها مصالح المجتمع، ولا تتدخل الدولة إلا لإكمال ما يعجز القطاع الخاص عن إنجازه، باعتبار ذلك من فروض الكفاية التي تأثم الأمة إذا لم تتحقق.
ومن هنا، فإن الوظيفة الاقتصادية للدولة قوامها قيامها بالمشروعات المهمة التي تمس حياة أفراد المجتمع وضرورياتهم، من مرافق عامة وما يلزم من تعليم وصحة ونحوهما، فضلاً عن المشروعات الإستراتيجية التي لا يمكن تركها للأفراد من تسليح وتنمية الثروات الطبيعية، وكذلك المشروعات الضرورية التي عزف القطاع الخاص عن الدخول فيها إما لكبر حجمها أو قلة عائدها، مع التوجيه العام والرقابة العامة على الاقتصاد بصورة تجعل قاطرة التنمية ممثلاً في القطاع الخاص يعمل في بيئة صحية مناسبة، تمكنه كذلك من توفير التمويل اللازم للقطاع الخيري للقيام بدوره في تحقيق التكافل المجتمعي، وكل ذلك بما يحقق حد الكفاية لأفراد المجتمع.
وبذلك، لا تدخل الدولة منافساً للقطاع الخاص لمزاحمته وطرده، بل لدعمه وتحفيزه، وقد فطن إلى ذلك ابن خلدون – من قبل- حيث يرى أن «التجارة من السلطان مضرة بالرعايا مفسدة للجباية منقصة للعمارة»، كما تناول ذلك أبو الفضل الدمشقي -قبل ابن خلدون بعدة قرون- حيث قال: «الأمور المركبة من المغالبة والاحتيال هي كتجارة السلطان التي تكون فيها الطروح والابتياع والبيع الذي لا يقدر أحد أن يزيد عليه في حال الشراء ولا يمنع من تحكمه في البيع، وقد قال بعض الحكماء: إذا شارك السلطان الرعية في متاجرهم هلكوا، وإن شاركوه في حمل السلاح هلك».
إن الدولة في النظام الاقتصادي الإسلامي راعية؛ «الإمام راع ومسؤول عن رعيته»، فلا مكان فيها لما أرسته الرأسمالية من تسخير المجتمع لصالح القطاع الخاص باسم الدولة الحارسة التي تحكم ولا تملك، وشعار «دعه يعمل دعه يمر»، أو لما أرسته الاشتراكية من سيطرة الدولة على الاقتصاد وطرد القطاع الخاص والتأميم باسم الملكية العامة، فالدولة في النظام الاقتصادي الإسلامي لها الحق في دخول السوق كمنتج ومالك وموزع للموارد الطبيعية، وكمنظم للسوق من خلال الحسبة في إطار الحرية المنضبطة، والحسبة تعني: الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه، والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله.
وبذلك يرتبط تدخل الدولة بتوفير حاجات الناس وضروراتهم توسعاً وانكماشاً، وفق قواعد منضبطة قوامها المصلحة، وذلك بأن تتفق مع مقاصد الشارع الحكيم، وأن تكون مصلحة حقيقية لا وهمية، وأن تكون مصلحة عامة لا تخدم شخصاً أو فئة معينة، وأن تراعي الأولويات من ضروريات فحاجيات فتحسينات.
مع التأكيد على أن قيام الدولة بالرقابة على النشاط الاقتصادي من خلال وظيفة الحسبة للتأكد من التزامه بالأحكام الشرعية يدخل في المصالح العامة، كمراقبة الأسواق لمنع الاحتكار والربا والمقامرة والغرر والنجش والغش وتطفيف المكيال والميزان، وما يلزم أحياناً من تحديد للأسعار، فضلاً عن تنظيم ومراقبة سوق العمل وتحديد حد أدنى للأجور، بالإضافة إلى حالات نزع الملكية، وتنظيم الإنتاج والاستهلاك ووضع قيود على استيراد سلع معينة، واتخاذ إجراءات اقتصادية لتحقيق أهداف مشروعة مثل إجراءات خفض البطالة، أو تشجيع زراعة محصول معين، أو رعاية فئات اجتماعية معينة ونحو ذلك، وهذا كفيل برفع كفاءة الأسواق، ومن ثم النشاط الاقتصادي إلى أقصى حد.
وقد جاء في وصية الإمام عليّ رضي الله عنه التي وجهها للأشْتَرِ النَّخعي موصياً بالتجار: «استوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيراً، المقيم منهم والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك، وفي حواشي بلادك.
واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به، وعاقبه من غير إسراف».
لقد حرص النظام الاقتصادي الإسلامي على المنافسة الشريفة لتحقيق الكفاءة والعدالة للأسواق، فالأصل في الإسلام عدم التدخل بفرض سعر معين للسلع المتداولة في الأسواق، حيث إن التعامل في شريعة الإسلام مبناه على الحرية وصحة ما يتراضى عليه المتعاقدان، لذا قطع السبل على كل وسيلة تحول دون ذلك فحرم الاحتكار والغش والتدليس والخديعة والغرر وتلقي الركبان وبيع حاضر لباد والبيع على بيع أخيه والسوم على سومه، وفي هذا منع للضرر الذي يعوق حركة التعامل في الأسواق فضلاً عن الضرر الذي يتعرض لـه أصحاب السلع والمنتجات، يقول الله تعالى: (لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29).
وروى أنس قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، سعِّر لنا، فقال: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ»؛ وفي هذا يقول ابن القيم: «أمَّا التسعير فمنه ما هو ظلمٌ محرَّم، ومنه ما هو عدلٌ جائز، فإذا تضمن ظلم النَّاس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم ممَّا أباحه الله لهم، فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين النَّاس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم ممَّا يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائز، بل واجب.
فأمَّا القسم الأوَّل، فمثل ما روى أنس في الحديث السابق، فإذا كان النَّاسُ يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر -إمَّا لقلَّة الشيء (العرض)، وإمَّا لكثرة الخلق (الطلب)- فهذا إلى الله، فإلزام النَّاس أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراهٌ بغير حق.
وأمَّا الثاني، فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها، مع ضرورة النَّاس إليها إلَّا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلَّا إلزامهم بقيمة المثل، فالتسعير ها هنا إلزام بالعدل الَّذي ألزمهم الله به».