بعد أشهر سيكون مرّ ثمانون عامًا على تعرض هيروشيما وناجازاكي للقنابل النووية الأمريكية، حيث قتلت الانفجارات والعواصف النارية والإشعاعات ربع مليون إنسان، وأصيب عشرات الآلاف، وخلّف الإشعاع والسرطان والصدمات النفسية والمعاناة الإنسانية إرثاً لا يمكن قياسه بين الأجيال.
وبعد انتهاء الحرب، أقيم نصب تذكاري في موقع سقوط القنبلة في هيروشيما، ونقش عليه: «لترقد جميع الأرواح هنا في سلام، فنحن لن نكرر هذا الشر مرة أخرى»، ولكن هل أوفى البشر بوعدهم هذا؟
شر يتكرر في غزة
الدلائل تثبت أن البشرية تكرر ذلك الشر -الذي كان إرهاب دولة، وجريمة حرب غير أخلاقية- في صورة أبشع في غزة بالدمار الشامل للحياة والبيئة وإبادة أجيال من الشعوب البريئة، وهي صورة وتذكرة مريرة لما نكون عليه، إذا قام أحد مجرمي الحرب بضغط زر بداية التدمير النووي لكوكبنا البهيج، لقد ألقي على غزة حتى الآن 85 ألف طن متفجرات، وهي من حيث الكمية، لا النوع ولا المدة، تفوق ضعف قنبلتي هيروشيما وناجازاكي.
لهذا صرّح ميماكي، الناجي من قصف هيروشيما، والفائز بجائزة «نوبل» للسلام لهذا العام مع مؤسسته الداعية لمنع الأسلحة النووية، بقوله: «في غزة، يحتضن الآباء أطفالهم الذين ينزفون حتى الموت، وهو أشبه بما حدث في اليابان قبل 80 عامًا»، وقارن معاناة غزة بمعاناة اليابان بعد القصف، وانتقد التقاعس العالمي، وسلط الضوء على تأثير الحرب المأساوي على أطفال غزة، وعلى عبثية القول بأن الأسلحة النووية تحافظ على السلام العالمي(1)!
ومن المخيف أن التهديد بالأسلحة النووية استُخدم علناً كأدوات للضغط مؤخرًا من قِبل دولة الاحتلال الصهيونية ضد غزة، وكوريا الشمالية ضد أمريكا، وروسيا ضد الغرب، خاصة بعد استهداف أوكرانيا العمق الروسي بصواريخ أمريكية وبريطانية بعيدة المدى، وتهديد أمريكا بنقل أسلحة نووية لأوكرانيا، وفي ولاية ترمب الأولى توعّد باستخدامها ضد كوريا الشمالية، وفي حملته الأخيرة حرّض دولة الاحتلال على ضرب منشآت إيران النووية مع علمه بآثار ذلك الكارثية على منطقة الخليج كلها.
لذا، جاء في رسالة الأمين العام للأمم المتحدة أمام نصب هيروشيما: «إن طبول الحرب النووية تدق مرة أخرى، وشبح الحرب النووية الذي كان يلوح في الأفق خلال الحرب الباردة قد ظهر الآن، وتهدد بعض الدول، بشكل متهور، باستخدام أدوات الإبادة هذه من جديد»(2).
الترسانات النووية تتضخم
والبشرية في طريقها إلى ما هو أشر مما حدث، فقد تمادوا في تطوير القوة النووية، فيرى الفيلسوف أورد، من جامعة أكسفورد، في كتابه «الهاوية»، أن حجم القوة التفجيرية للقنبلة الهيدروجينية (نووية حرارية، تصل قوتها التدميرية إلى 50 ألف قنبلة ذرية) أصبح هائلًا في القرن الحالي إلى حد أنه يمثل تهديدًا وجوديًا للبشر، فتتسبب الأدخنة المتصاعدة من العواصف النارية التي تولدها هذه القنابل في حجب أشعة الشمس لسنوات، فيما يسمى بالشتاء النووي، وسيودي الانفجار بحياة مئات الملايين وبعدها سيموت المليارات من الجوع، وربما يقود لفناء الجنس البشري(3).
ومن الأدلة على التخطيط للشر الأكبر مواصلة الدول التسع المسلحة نوويًا تحديث ترساناتها ونشر أنظمة أسلحة نووية جديدة أو قادرة على حمل رؤوس نووية، طبقاً لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام، ومن إجمالي المخزون العالمي المقدر بنحو 12121 رأسًا حربيًا نوويًا، يوجد 9585 متاحة من الناحية التشغيلية، وهناك 3904 رؤوس متمركزة مع القوات العملياتية، وتُحفظ 2100 من الرؤوس في حالة تأهب تشغيلي عالٍ(4).
الاقتراب من الهاوية
منذ اكتشاف الأسلحة النووية، اقترب العالم من حافة صراع نووي مدمر 22 مرة؛ بسبب إساءة تفسير بعض الأحداث، مثل سرب من البجع، أو لون القمر، أو مشكلات بالكمبيوتر، أو ظواهر جوية فضائية غامضة، كذلك جراء الأخطاء البشرية، كما حدث في هاواي عام 2018م لما ضغط الموظف على الزر الخطأ بوجود هجوم نووي، وثار الرعب في الجزيرة لما وصلت لمليون شخص رسائل رسمية تناشدهم البحث عن مأوى فوري، ولو كان الخطأ وصل للرئيس لكانت بداية حرب مدمرة؟
ومن أمثلة ذلك:
– في عام 1969م، أثار تدمير كوريا الشمالية لطائرة تجسس أمريكية غضب الرئيس نيكسون، وكان ثملًا من إفراط شرب الخمر كعادته، وأمر وهو في تلك الحالة بتسديد ضربة نووية ضد كوريا، لكن الضباط تلقوا مكالمة من مستشار الأمن القومي، أمرهم بالانتظار حتى يفيق الرئيس!
– في عام 1983م كادت أن تحدث حرب نووية عندما أطلقت أجهزة الإنذار المبكر السوفييتي إنذارًا برصد صواريخ أمريكية، ولكن الضابط المناوب قرر أنه إنذار كاذب، وكشفت التحقيقات أن القمر الصناعي عرّف ضوء الشمس المنعكس على السحب بأنه محركات لصواريخ.
– في عام 1995م اتخذ الرئيس الروسي لأول مرة في التاريخ قرارًا باستخدام حقيبة الشفرات النووية، بعد ملاحظة الرادار صاروخًا أطلق من النرويج، وخلال دقائق اكتشفوا أن الصاروخ أرسل لاستكشاف علمي للأضواء الشمالية.
– في عام 2010م فقد سلاح الجو الأمريكي مؤقتًا القدرة على التواصل مع 50 صاروخًا نوويًا؛ مما يعني أنه كان من المستحيل الكشف عن الإطلاق التلقائي وإيقافه.
ويحذر وزير الدفاع الأمريكي السابق في كتابه «الزر.. سباق التسلح النووي الجديد والسلطة الرئاسية من ترومان إلى ترمب»، من هشاشة التدابير التي تكفل الالتزام بضمانات منع انتشار واستخدام الأسلحة النووية، وأن هناك نوعين من الخطأ قد يؤديان إلى إطلاق إنذار كاذب؛ الخطأ البشري والخطأ التقني.
وأنظمة إطلاق الصواريخ المفترض أن تحمينا، هي نفسها مصدر التهديد الأكبر، فثمة مخاوف من أن يؤدي تزايد الاعتماد على أجهزة الكمبيوتر المعقدة إلى أن يشن قراصنة الإنترنت أو الفيروسات أو الذكاء الاصطناعي حربًا نووية.
وقد تزايدت أخطار الإنذارات الكاذبة بالتوازي مع زيادة أخطار الهجمات الإلكترونية، فمن الممكن خداع نظام المراقبة لإيهامه بوجود هجوم صاروخي، ومن ثم قد يبادر الرئيس على الفور إلى إطلاق صواريخ ردًا على الهجوم(5).
منع الهاوية بثورة أخلاقية
سيبدو الجانب الأخلاقي للحرب النووية مختلفًا لو نظرنا إليه بوصفه تهديدًا وجوديًا للبشرية وليس في إطار الصراعات القومية.
وقف أوباما كأول رئيس أمريكي في منصبه يزور هيروشيما، أمام نصبها التذكاري، ولم يعتذر عما سببته بلاده من فظائع، وقال: «إن الثورة العلمية التي أدت إلى انشطار الذرة تتطلب أيضاً ثورة أخلاقية».
ولن يجد العالم هذه الثورة الأخلاقية الإنسانية إلا في الإسلام، فالحرب في ديننا -إذا كان لا بد منها- لا تعني إلغاء الشرف في الخصومة، والإنسانية والرحمة والسماحة في القتال وبعده.
وإن كان الكثيرون من قادة الحروب لا يبالون إلا بالتنكيل بالعدو وتدميره، وإن أصاب هذا التنكيل الأبرياء والمسالمين؛ فإن الإسلام يوصي ألا يُقاتَل إلا من يقاتِل، ويحذّر من الغدر، والتمثيل بالجثث، وقطع الأشجار، وهدم المباني، وتخريب العمران، وقتل النساء والأطفال والشيوخ والرهبان المنقطعين للعبادة والمزارعين المنقطعين لحراثة الأرض(6).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرًا على جيش، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، وقال: «لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا» (رواه مسلم).
نأمل أن يعم السلام، حتى يتمكن جنسنا البشري أن يبقى، إلى ما شاء الله، على قيد الحياة لإنهاء ما صنعه لنفسه من المرض والفقر والظلم والاستبداد والفساد والتلوث، ويمكنه الازدهار بطرق لا يمكن تصورها.. لكن هذا المستقبل الرحب معرض للخطر، فبالإضافة لخطر الأسلحة النووية، دخلت البشرية عصرًا تواجه فيه كوارث وجودية وأخطاراً مضاعفة؛ من تفكك الأسر إلى تفشي المخدرات، ومن الحروب والنزاعات إلى تغير المناخ، ومن الميكروبات المعدّلة وراثيًا إلى الأوبئة الكارثية، ومن الذكاء الاصطناعي إلى القرصنة الإلكترونية، وإذا لم نتحرك بسرعة للوصول لعالم آمن بالعدل والإيمان، فسوف يكون قد فات الأوان!
_________________________
(1) Rothwell, Hiroshima survivor issues Gaza warning as he accepts Nobel Prize, The Telegraph, 11 October 2024.
(2) موقع أخبار الأمم المتحدة، مخاوف من عودة «شبح الحرب النووية»، 5 أغسطس 2023.
(3) Ord, The Precipice: Existential Risk and the Future of Humanity, Hachette Books, New York, 2020.
(4)The Stockholm International Peace Research Institute, 2024 Yearbook.
(5) Perry & Collina, The Button: The New Nuclear Arms Race and Presidential Power from Truman to Trump, BenBella Books, Dallas, 2020.
(6) مدخل لمعرفة الإسلام، القرضاوي، مؤسسة الرسالة، ص94، بتصرف.