يوم «أُحد» خرجت أم حكيم بنت الحارث مع النساء متشوقات إلى يوم بيوم «بدر»، فَرُحْنَ يُحمِّسْنَ جيش الشرك، كانت مخلصة للمبدأ الذي تراه صواباً، كانت متيقنة بأن حربها للإسلام ستهيئ لها حياة أوفر جدوى مع زوجها عكرمة بن عمرو بن هشام، ولا أقول: عكرمة بن أبي جهل؛ تقديراً له وإجلالاً، وإذا ذَكرْتُ عمرواً بن هشام وحده، فإن القلب الذي كَرِهْتَه به ما زال في صدري، وقلت: أبو جهل، فقد كان لعنه الله مع الجهل وكان الجهل معه يدور.
وفي يوم «فتح مكة» كُتِبَ لأم حارثة أن تؤمن بدعوته صلى الله عليه وسلم، ولئن ضنَّ علينا التاريخ ببيان عُمْرِها، فباسْتِشْفَاف تاريخي نُحَدِّس(1): كانت أول أزواج عكرمة، ومن المعلوم أن عكرمة ولِدَ عام 24 ق.هـ/ 598م فيكون في عامه الحادي عشر عندما بُعِثَ صلى الله عليه وسلم، ونرجح بأن عكرمة كان أَسنَّ منها أو يناظرها سنًّا، وهكذا فعندما بُعِثَ صلى الله عليه وسلم وعمره أربعون عامًا كانت هي في أواخر عَقْدها الأول أو تجاوزته بقليل، وعندما هاجر صلى الله عليه وسلم كانت بالكاد قد تجاوزت عَقْدها الثاني، ويمكننا تصنيفها بين فتيات أو شابات العصر النبوي.
وبينما آمنت هي يوم الفتح، هرب زوجها عكرمة محدداً اليمن وجهة له، عازماً على اتخاذه مقاماً، وكان صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتله هو ونفر معه، وكانت رؤية أم حكيم قد تغيرت إلى الصواب فراحت تُخْلِص لمبادئ الإسلام ولم تخرج مع زوجها إلى اليمن، ولكنها لم تُسْرِف في الحزن والتمني وتترك الظروف تُوجه سَيْرها، أو تدع التردد الذي هو عِلَّة الكثيرين في هذه الحياة يتحكم في وجهة أمرها.
فقصدت النبي صلى الله عليه وسلم تستأمنه لزوجها عكرمة على أن تخرج خلفه وتعود به، فَأمَّنَه صلى الله عليه وسلم وأذن لها بالخروج، فخرجت لتوِّها ماضية في إثر زوجها حتى وقفت على خبره، ولم تدعه إلَّا وقد حَوَّلَت رؤيته إلى الصَّواب، ولئن كانت أشد نساء التاريخ إخلاصاً ما فعلت شيئاً فوق فعلها، وقفلا سوياً عائدين، فلمَّا وافى مكة، قال صلى الله عليه وسلم: «يأتيكم عكرمة مؤمناً، فلا تسبُّوا أباه، فإن سبَّ الميت يؤذي الحيَّ..»، وقَدِمَ عكرمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فلمَّا رآه صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحاً وما عليه رداء حتى بايعه، وثبتا على نكاحهما(2).
ليُسْلِم عكرمة ويأخذ مكانه الأليق به بين قادة ركب التوحيد، فقد كان في الجاهلية معدوداً من فرسان قريش البارزين، محسوباً من أشرافها المرموقين، فقد جاء من بيت مُوغِلٍ في العزِّ والشرف، وكان له عقل ومروءة لا يُسْلِماه إلَّا إلى خير، ولكنه ألفى نفسه معادياً للإسلام ورسوله مدفوعاً على هذا السبيل بنهج أبيه.
ومن نفس البيت جاءت أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة، فقد كانت ابنة عم عكرمة، وابنة أخت خالد بن الوليد رضي الله عنهم، وقيل: ولما كان يوم «فتح مكة» أَمَّنَ صلى الله عليه وسلم الناس إلَّا أربعة نفر وامرأتين، وقال صلى الله عليه وسلم: «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة»؛ عكرمة بن أبي جهل، وعبدالله بن خطلٍ، ومقيسُ بن صبابة، وعبدالله بن سعد بن أبي السرح، فأما عكرمة بن أبي جهل فركب البحر فأصابتهم عاصف، فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تُغني عنكم شيئاً ها هنا، فقال عكرمة: إن لم يُنَجِّني في البحر إلَّا الإخلاص فما ينجني في البر غيره، اللهم لك عليَّ عهد إن أنت عافيتني مما أن فيه آتي محمداً حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً، فجاء فأسلم(3).
هكذا بدأت أم حكيم وزوجها عكرمة سَيْرهما المميَّز تحت راية الحق، وأقبلا ينْهَلان من موارد الإسلام العِذَاب، وأدرك عكرمة تأَخُّرَهُ عن انطلاقة دولة الإسلام، فبدأ في سباق محموم مع الزمن، وكأن طبيعته الشجاعة والرائدة بنزعتها وميليها تثأر لنفسها من تأخيرها، وتأبى أَشْدّ الإباء إلَّا المجيء في طليعة الجيش الفاتح باسم الدولة الفتية.
وفي يوم «اليرموك»، خرج عكرمة ومعه زوجته أم حكيم وأبوها الحارث بن هشام، وكان عكرمة قائداً لبعض الكراديس(4)، وخالد بن الوليد قائداً للجيش، واشتد القتال وحمى الوطيس، ورسم عكرمة لوحة نادرة لعبقرية البذل والاستبسال، ونادى في المسلمين: من يبايع على الموت؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام (والد أم حكيم) في أربعمائة مقاتل من المسلمين، وأَوْغَلُوا في صفوف الروم يهدونها هداً، ونادى عليه خالد بن الوليد: لا تفعل يا عكرمة، فإن قتلك سيكون شديداً على المسلمين، فأجابه رضي الله عنه صارخاً: إليك عني يا خالد، فلقد كان لك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقة، وكنت أنا وأبي من أشد الناس عليه.
كان رضي الله عنه يحاول تعويض ما فاته، فَنَالَ خيرَ عوضٍ، نال الشهادة مع عمه الحارث رضي الله عنهما، ووضعت «اليرموك» أوزارها عن نصر مؤزر للمسلمين، وآبت أم حكيم مع الجيش المنتصر، تَضْمُر ما تحسَّه من شجون وشؤون(5)، تتنهد في أسى وتلتمع بين أجفانها عبرات سعيدة، وبين الحين والحين ترنو في الفضاء مُـحَـاوِلَة استشراف روعة المصير لأب وزوج خلفتهما شهيدين على ساحة «اليرموك».
وطفقت الأيام تدور وتُثْرِي التاريخ بأحداثها، وما فتئت أم حكيم بنت الحارث ماضية في نهجها الإيجابي المجلل بإخلاصها، وفي عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، انْضَوَت(6) رضي الله عنها تحت راية الجيش العائد لقتال الروم، وقبل معركة «مرج الصفر»(7)، خطب خالد بن سعيد رضي الله عنه أم حكيم، وأراد أن يعقد عليها ويَبْني بها، فقالت له: أرى أن نتأخر حتى يهزم الله الروم، فقال لها: إن نفسي تحدثني بأنني سوف أقتل! وأحست أم حكيم في لهجة خالد شيئاً جعلها تقول له: فدونك.. وبَنىَ بها رضي الله عنها في ليلته (عند القنطرة التي بالصفر وبها سُمِيت قنطرة أم حكيم)، وفي الصباح، صنع لأصحابه وليمة العرس، وجلسوا إلى الطعام، وما فرغوا منه حتى أقبل الروم بجيش لا يُضارع في عدده ولا عُدَتِه ودارت حرب ضارية مهلكة، وسقط خالد رضي الله عنه شهيداً مجيداً في صباح عرسه.
سبحان الله! أتراك يا خالد كنت تستجلي بوحي من بصيرتك المؤمنة أن الشمس ستغرب من غد وليس لك في الحياة أنفاس، وأنه لا تثريب عليك في أن تفعل ما يفعله الراحل بغير عودة طالما كان الفعل لا يغضب الله؟ هل وهبك الله بصيرة مرهفة فكنت من روعة مصيرك العاجل على ثقة لا يتسرب إليها ريب؟ لذا لم تكتم أم حكيم ما استشعرته من خبيئة أمرك، وقلت لها: إن نفسي تحدثني بأنني سوف أقتل.. أتراك يا أم حكيم قد أثار خالد في نفسك ما أثارته بصيرته المرهفة في نفسه، فحدثتك بأنه لا لائمة عليه في أن يستصفي ما يتصل بنفسه من رغبات الدنيا الحلال، ولئن صدق حَدَسَهُ يستقبل الموت في راحة وسكينة؟ لذا قلت له مطمئنة لما دَبَّرَ وأَشَار: فدونك.
واستشهد خالد، ولم تسرف أم حكيم في الحزن والبكاء، وكدأبها انساقت بإيجابيتها، وسعت بما يتوافق مع الحدث من سعي صواب، فهبـَّت كالملدوغ الذي يريد الثأر، وشدَّت عليها ثيابها، واقتلعت عمود الفسطاط الذي أعرس بها خالد فيه، وتَبَدَّت وإن عليها أثر الخلوق(8)، وتتراءى لها صور الأحباب الذين صعدوا شهداء بأيدي الروم: زوجها عكرمة بن عمرو بن هشام، وأبوها الحارث بن هشام، وزوجها خالد بن سعيد.
ولأن الطبيعة السوية قوية في ثأرها، فقد رَمَتْ أم حكيم بنفسها بين رَحَىَ المعركة تضرب بعمود الفسطاط يُمنة ويسرى، وعندما انكشفت الحرب عن نصر رائع للمسلمين كانت أم حكيم قد قتلت سبعة من الروم وأوردتهم إلى الجحيم، ومرة ثانية تؤوب رضي الله عنها مع جيش منتصر تجتر أحزان الترمل المُرَّة، تُرْسِل بصرها في الفضاء اللمَّاع، تتبعه تنهيدة آسيـَّة، مستشرفة روعة المصير لأب وزوجين خلفتهم شهداء على ساحتي «اليرموك» و«مرج الصفر».
ومرة أخرى كنت أيها التاريخ ضنيناً معنا ورفعت قلمك سِرَاعاً عن أم حكيم، وطَوَيْت صفحتها الميمونة ها هنا، ولئن كانت شخصية أم حكيم الرائعة تدفعنا دفعاً إلى أن نُحدِّس بأن لها من روائع الأخبار ما لم يَجْرِ عليه قلمك، فإننا نطمئن لشرف غايتك، ونزاهة مقصدك، وإنك من مآل مصيرها الرائع على ثقة لا يتطرق إليها ارتياب.
نشكرك أيها التاريخ العظيم ما دمت تاريخاً إسلامياً، ونترضَّى عنكِ يا أم حكيم ما وسعنا الترضي، ونطمح إلى لقائكِ هناك ما وسعنا الطموح(9).
_____________________
(1) نُخَمِّن.
(2) شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك (3/ 238).
(3) حديث صحيح: أخرجه النسائي (7/105)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2683).
(4) الكراديس جمع كردوسة، وهي الطائفة العظيمة من الخيل والجنود.
(5) آلام وأمور وأحزان.
(6) انضمت.
(7) موضع بالقرب من دمشق.
(8) نوع من العطر.
(9) تاريخ دمشق (41/ 53)، تاريخ ابن جرير (11/ 561)، معرفة الصحابة (5468)، الاستيعاب (3436)، الإصابة (5655) (11984)، أسد الغابة (3741) (7421).