النداء القرآني (ارْكَب مَّعَنَا) (هود: 42)، الذي وجهه نبي الله نوح عليه السلام، يتجاوز كونه دعوة آنية لنجاة ابنه من الطوفان إلى كونه منهجًا شاملاً لبناء سفينة النجاة والانطلاق بها نحو بر الأمان، هذه الدعوة تمثل رسالة تربوية واجتماعية وإيمانية لكل فرد وجماعة تسعى لمواجهة التحديات الكبرى.
كنا ننتظر طوفانًا ربانيًا بمعاقبة البشرية على ما اقترفت من ظلم وجور وفساد فطرة، وسفك دماء، وإهلاك للحرث والنسل، أو طوفانًا شيطانيًا بأن يُرخي الله تعالى للظالمين العنان بعض الوقت فيزدادون غيًا وفسادًا وإجرامًا، ويتسلطون على أهل الحق فينالوا منهم ببعض ما كسبت أيديهم، أو طوفانًا إيمانيًا يفتح الله فيه لأهل الحق من واسع فضله وكرمه وعظيم منته بابًا يرفعون فيه راية دينهم، فيخلصهم من سطوة الطغاة والمجرمين، كما قال الله تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةًۭ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ) (القصص: 5).
وقد كان الله كما كان، وسيظل سبحانه عند حسن الظن به، فما ظننا به إلا الخير، بل كل الخير، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي؛ إن ظن بي خيرًا فله، وإن ظن شرًا فله» (رواه أحمد).
حيث جاءت بشارات الطوفان الإيماني ومقدماته وفتح الله باب الانطلاق من الشام، وإنني لأظنه فتحًا للأمة في المنطقة بأسرها، ولا ننسى أن لـ«طوفان الأقصى» ورجالاتها نصيبًا كبيرًا من ذلك الفتح، فقد أراد أهل الله تعالى في أرض العزة أن يحرروا «الأقصى» بـ«الطوفان»، وإني لأعتقد –والعلم عند الله– أن الله تعالى بصدق جهادهم وتضحياتهم جعل طوفانهم سببًا لتحرير سائر الأوطان، فما أعظم بركتهم، وما أوسع عطاء الله لهم!
واليوم وفي تلك اللحظة الراهنة، وفي نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، نسجل نداءً لأهل الإيمان جميعًا على وجه الأرض: يا أهل الإيمان، يا أتباع سيد الأنام، يا حملة رسالة الإسلام، يا ورثة النبوة المباركة، هلموا إلينا، اركبوا معنا، شمّروا عن سواعد الجهد، وانفضوا عنكم غبار الهزيمة النفسية، واطردوا دواعي اليأس، وتأهبوا للحظة الانطلاق، ولا تتلكؤوا؛ فإن التفاتة للحظة واحدة قد تؤخر السالك دهراً كاملاً.
اركبوا معنا فتأهبوا لشروط النجاة، وتحققوا بمؤهلات الاستعمال، وأروا الله من أنفسكم خيرًا، واعلموا أن السر والله، يكمن في تلك الكلمات المباركات، القليلات في عباراتها، العظيمة في دلالاتها: «إن تصدق الله يصدقك».
لذا، فإن مؤهلات لا بد منها لكل سالك أراد صحبة الأخيار، ونسأل الله أن نكون جميعاً منهم، وأول تلك المؤهلات ما يلي:
– الإخلاص:
فمن لم يخلص لله نيته، ولم يصدق لله في انطلاقته، ولم يجعل الآخرة أكبر همه، لا مكان له في سفينة الارتقاء والاصطفاء، لأن الماء خارج السفينة لا يغرقها، وإنما يغرقها يقينًا ذلك الماء الذي يتسلل إلى داخلها، ولذا، كانت من أسباب الهزيمة في أحد ذلك الماء الذي تسلل إلى بعض النفوس، الذي عبر عنه القرآن الكريم بقول الله تعالى: (أَوَلَمَّآ أَصَـٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٌۭ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَـٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ) (آل عمران: 165).
وعبر عنها الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه بقوله: «ما كنت أعلم أن أحدًا من أصحاب رسول الله يريد الدنيا حتى نزلت تلك الآية، ويكمن الإخلاص في التأهب للاستعمال، وصدق البيعة مع الله تعالى، واليقين بقانون القرآن الكريم: (إِن يَعۡلَمِ ٱللَّهُ فِى قُلُوبِكُمۡ خَيۡرًۭا يُؤۡتِكُمۡ خَيۡرًۭا مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۗ) (الأنفال: 70).
وإن أوسع أبواب التأهب للاستعمال وفتح باب الاستخدام يكمن في تلك المجاهدة للنفس، وعرضها على ربها تزكية وترقية وتنقية وتهذيبًا، كما قال الله تعالى: (وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ) (العنكبوت: 69).
فاجعل من هذه السفينة طريقك إلى الله، وحافظ على شروط الركوب، فإن النجاة ليست للأقوى جسدًا، بل للأكثر إيمانًا وإعدادًا.
– الزوجية:
كان التكليف لنوح عليه السلام أن يحمل في السفينة من كل زوجين اثنين، قال الله تعالى: (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٌۭ) (هود: 40).
ومن مقاصد الزوجية، بالإضافة إلى التناسل والتكاثر، هو الفاعلية في الحياة، فمن لم يكن نافعًا لأمته في مجالات البناء، ومعينًا لها في سباقها نحو الارتقاء بامتلاك مهارة العمل الجاد، والإيجابية الفاعلة، والحركة المبصرة بإخلاص نيته، ووضوح غايته، وعلو همته، وتعاليه على العقبات، والصمود أمام التحديات، أنى له أن يركب في السفينة؟ أنى له أن يثمر وجوده، وأن ينفع حضوره، وأن يكون عمودًا من أعمدة البناء يحمل على عاتقه رسالة السماء، متحققًا بها اعتقادًا وسلوكًا وعملًا!
فما عليك إلا أن تختار الوادي الذي اختاره الله لك واختارك له، وكما قال الله تعالى لموسى عليه السلام: (وَأَنَا۠ ٱخۡتَرۡتُكَ فَٱسۡتَمِعۡ لِمَا يُوحَىٰٓ) (طه: 13)، فإنه كذلك اختار لك الطريق الذي أنت فيه، وأعطاك الإمكانات والخبرات اللازمة له، فلا تُكثر من التردد، وكن واديًا مباركًا في مجال تخصصك، واديًا مباركًا في مجال العلم، فكن معلمًا كما بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم معلمًا، أو اقتصاديًا بارعًا، أو إعلاميًا مبدعًا، أو إستراتيجيًا مبصرًا، أو عسكريًا فاتحًا، أو مربيًا أريبًا، أو زوجةً تقوم بالحافظية على أفضل صورها وأعلى مقاماتها، إلى غير ذلك من المجالات التي تخدم بها الأمة.
وتيقن أنك بإتقانك لواديك قد تأهبت للانضمام إلى ركاب سفينة النجاة، لتصنعوا معًا طوفانًا إيمانيًا يزيل الله به الباطل، ويقيم الحق ثابتًا راسخًا، كما قال الله تعالى: (فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءًۭۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ) (الرعد: 17).
– المفاصلة:
لا مكان في السفينة لأصحاب المواقف الرمادية، ولا ركوب في السفينة لمن تعلق بالأنظمة الوضعية وتشرب فلسفاتها الأرضية، ولم يحسم انتسابه إلى الدين؛ عقيدة وسلوكًا ومنهجًا ونظامًا بصورة قاطعة.
فقد كان نداء نوح لابنه قبيل الطوفان: (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ) (هود: 42)، فلا مجال لصعود السفينة لمن تأرجح إيمانه وتشعب ولاؤه، فإما انحيازاً إلى الإيمان وأهله اعتقاداً وقولاً وفعلاً، وإما انتساباً إلى النفاق وأهله، وقد سأل نوح عليه السلام ربه متعجبًا: (رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَٰكِمِينَ) (هود: 45)، فجاءه الجواب من الله عز وجل: (يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ) (هود: 46).
فلا أخوة تعدل أخوة الإيمان، ولا تماهي مع مناهج الكفر والعصيان، ولا مداهنة تصلح، ولا مصانعة تنجح، ولا تنازل يفلح، إن لم تكن الدينونة لله تعالى في كل حركة وسكنة، فلا مقعد لك في السفينة، فإن السفينة لا تحمل أنصاف المؤمنين، ولا أنصاف المسلمين، ولا أنصاف المجاهدين.
وإنما أعد الله السفينة لتحمل أولئك الذين تحققوا بكلماته، وتشربوا هديه وعباداته، وسارعوا في كل خطوة لتحقيق مرضاته، وتشبثوا بعقيدته وثوابته وتشريعاته.
هذه السفينة لا مكان فيها إلا لمن صاغ قلبه وعقله وعمله وفق شريعة الله، وأخلص دينه لله وحده، واستعد بكل صدق وإخلاص لحمل أمانة الرسالة.