لا يحب أحد أن يكون شقياً، بل يستعيذ بالله تعالى منه كل مسلم، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قدوة في ذلك، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ»، وفي رواية أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وشماتة الأعداء».
قال ابن بطال: في الحديث دعوة إلى التعوذ من أن ينزل بنا من الشدة والمشقة، من البلاء والشقاء وشماتة الأعداء، والشقاء يكون في دين ودنيا، فإذا كان في الدنيا كان تضييقًا في العيش، وتقتيرًا في الرزق، وإن كان في الدين فذلك من الكفر أو المعصية، وهذه جوامع ينبغي للمؤمن التعوذ بالله منها كما تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما دعا بذلك صلى الله عليه وسلم معلمًا لأمته ما يتعوّذ بالله منه، فقد أمنه الله من كل سوء(1).
وقد أوضح الله تعالى في القرآن الكريم عدداً من السبل وحث على عدد من الأعمال، التي لا يلتقي معها الشقاء أبداً، بل هي تنفيه ولا تجعل له على فاعلها سبيلاً، ومن هذه الأعمال:
1- بر الوالدين:
لقد أمر الله بالإحسان إلى الوالدين، وجعل البار بوالديه محجوباً عن الشقاء، حيث ضرب لذلك مثلاً بسيدنا عيسى عليه السلام، في بره بوالدته، وتأكيده بوحي من الله تعالى أن بره بوالدته جعله أهلاً لأن يحجب الله عنه الشقاء، وفي هذا يقول الله تعالى على لسان سيدنا عيسى: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) (مريم: 32)، فقد ربط بين البر بوالدته وفضل الله عليه بالحماية من الجبروت والشقاء.
2- قراءة القرآن:
من الأعمال التي تحجب الشقاء عن المسلم أن يداوم على قراءة القرآن، ففي القرآن شفاء القلوب، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس: 57)، وقال عز وجل: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) (فصلت: 44)، وقال أيضاً: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (الإسراء: 82).
وأكد الله تعالى أنه أنزل القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم ليسعد ولا يشقى، ويتذكر ولا ينسى، هو وأمته صلى الله عليه وسلم، حيث قال عز وجل: (طه {1} مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى {2} إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى) (طه).
3- الدعاء:
يسهم الدعاء في منع الشقاء، ذلك أن تعلق القلب بالله تعالى يجعله على يقين من هداية الله له، فالدعاء سبيل الرشاد، حيث قال الله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186)، فلما دعوا ربهم واستجابوا له كانوا من الراشدين، وفي هذا تأكيد على أن الدعاء لا يشقى به صاحبه.
ويؤكد هذا ما جاء في قوله تعالى على لسان سيدنا زكريا عليه السلام: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) (مريم: 4)، وقوله على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام حين قال لقومه: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (مريم: 48).
4- اتباع هدى الله:
أوضح الله تعالى أن من اتبع هدى الله، فإن الله يمنحه الهداية ويمنع عنه الشقاء والغواية، حيث قال الله تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى {123} وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه).
ومن اتبع هدى الله فإن الله يحييه حياة طيبة، حيث قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97)، قال ابن كثير: هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ عَمِلَ صَالِحًا وَهُوَ الْعَمَلُ المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، مِنْ بَنِي آدَمَ وَقَلْبُهُ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنَّ هَذَا الْعَمَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ مَشْرُوعٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِأَنْ يُحْيِيَهُ اللَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يَجْزِيَهُ بِأَحْسَنِ مَا عَمِلَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَشْمَلُ وُجُوهَ الرَّاحَةِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ(2).
___________________
(1) شرح صحيح البخاري: ابن بطال (10/ 323).
(2) تفسير ابن كثير (4/ 516).