حين يقال: «فلان في ذمة الله» تنصرف الأذهان إلى أنه قد مات، ولا حرج في ذلك، بل هو دعاء للميت أن يكون في ضمان الله ورعايته، فلا يعذبه.
لكن كلمة «في ذمة الله» لا تطلق فقط على من مات؛ بل إنها تطلق أيضاً على أصناف من الناس وهم أحياء، وهذه الإطلاقات تفتح الباب أمام كل مسلم أن يطمح لأن يكون في ذمة الله، يعني حمايته ورعايته، فالذمة هي الضمان والأمان.
وقد بينت السُّنة النبوية أصنافاً من الأعمال التي تصل بفاعلها إلى الدخول في رعاية الله وضمانه، وعبرت عنها الأحاديث النبوية بأن فاعلها في ذمة الله. وهذه بعض الأصناف:
1- من صلى الصبح في جماعة:
روى مسلم في صحيحه عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدُبَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللهِ، فَلَا يَطْلُبَنَّكُمُ اللهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ».
وفي مسند أبي يعلى عن أنس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ، فَإِياكُمْ أَنْ يَطلُبَكمُ الله بشيء مِنْ ذِمَّتِهِ»، هذا الحديث يتناول من صلى الصبح عامة، فهو في رعاية الله وأمانه.
وهناك رواية عند ابن ماجه، والطبراني، تؤكد أن الدخول في ذمة الله يكون لمن صلى الصبح في جماعة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «مَن صلَّى الصبحَ في جماعةِ فهو في ذِمَّةِ الله، فمَن أخفر ذمّةَ اللهِ، كَبَّه الله في النارِ».
2- من حافظ على الصلوات الخمس:
تصل المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها بفاعلها إلى الدخول في ذمة الله، حيث وصف صلى الله عليه وسلم المحافظ عليها بأنه في نور وبرهان ونجاة يوم القيامة.
فقد روى الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عَلَيه وسَلم: أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
كما أكد أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن الصلوات الخمس تجعل المحافظ عليها في ذمة الله يومه كله، وليلته كذلك، فقد روى الإمام أحمد في مسنده وابن سعد في الطبقات عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: اعْهَدْ إِلَىَّ، فَقَالَ: يَا سَلْمَانُ: اتَّقِ الله، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سَيَكُونُ فُتُوحٌ فَلَا أَعْرِفَنَّ مَا كَانَ حَظُّكَ مِنْهَا شيئًا جَعَلْتَهُ في بَطْنِكَ، أَوْ أَلْقَيْتَهُ عَلَى ظَهْرِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ منْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْس، فَإِنَّهُ يُصْبِحُ في ذِمَّةِ الله وَيُمْسِى في ذِمَّةِ الله، فَلَا تَقْتُلَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ ذِمَّةِ الله فَتَخْفِرَ الله في ذِمَّتِهِ فَيَكُبَّكَ الله في النَّارِ عَلَى وَجْهِكَ.
3- من قرأ «آية الكرسي» بعد الصلاة المكتوبة:
روى الطبراني في «المعجم الكبير» بإسناد حسن، عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما أن رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ فِي ذِمَّةِ اللهِ إِلَى الصَّلَاةِ الْأُخْرَى».
وفي هذا تأكيد على فضل قراءة «آية الكرسي» بعد الصلوات، بل إن قارئها لا يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت، فقد روى أحمد والنسائي عَن أبي أُمَامَة أن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «من قَرَأَ آيَة الْكُرْسِيّ فِي دبر كل صَلَاة مَكْتُوبَة لم يمنعهُ من دُخُول الْجنَّة إِلَّا أَن يَمُوت».
و«آية الكرسي» هي قوله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة: 255).
4- من لم يُصِب دماً حراماً:
إن أول ما يقضي الله تعالى فيه بين الخلائق يوم القيامة فيما يتعلق بمظالم العباد هي الدماء، ففي صحيح البخاري، ومسلم، عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ».
فمن أراد النجاة من مظالم العباد والدخول في أمان الله ورعايته فليحترز من إصابة الدم الحرام، فلا يقتل أحداً ولا يشارك في قتله، فقد روى الطبراني عن حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحَافَظَ عَلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ وَلَمْ يَنْتَدِ بِدَمٍ حَرَامٍ، فَإِنَّهُ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَلَيْسَ يَطْلُبُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذِمَّتِهِ فَلْيَفْعَلْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِتَارِكٍ شَيْئًا مِنْ ذِمَّتِهِ عِنْدَ أَحَدِ خَلْقِهِ»؛ ومعنى قوله: «وَلَمْ يَنْتَدِ بِدَمٍ حَرَامٍ»؛ أي: لم يُصِبْ منه شيئًا، ولم ينله منه شيء.
5- من تصدق بالعفو مما عنده:
لقد حث الإسلام المسلم على التصدق بما يملك، ولم يكلفه في ذلك حرجاً، بل حثه على الصدقة مما زاد عن حاجته، حيث قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (البقرة: 219)؛ والعفو هنا يعني ما زاد عن الحاجة.
بل إن الإسلام جعل التصدق بالشيء يحقق الدخول في ضمان الله ورعايته وأمنه وأمانه، ولو لم يكن هذا الشيء المتصدَّق به جديداً، فإذا تصدق المسلم بشيء لا يحتاجه لنفسه، لكن يمكن لغيره أن يستخدمه؛ فإنه ينال هذا الأجر والثواب، فقد روى أحمد في مسنده، وابن ماجه، والترمذي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «منْ اسْتَجَدَّ ثَوْبًا فَقَالَ حِينَ يَبْلُغُ تُرْقُوَّتَهُ: الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي كَسَانِي مَا أُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي -ثُمَّ عَمِدَ إِلَى الثَّوْبِ الَّذِي أَخْلَقَ- أَوْ قَالَ: ألْقَى- فَتَصَدَّقَ بِهِ، كَانَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ، وَفِي جِوَارِ اللَّهِ، وَفِي كَنَفِ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا».