يتحدث البعض أنه لا يمكن الجمع بين السياسة والأخلاق، وأن السياسة ما هي إلا لعبة الكذب والتحايل على الآخرين والخروج منهم بأكبر قدر من المكاسب دون دفع ثمن يذكر، وأنها لعبة المصالح بصرف النظر عن الصدق أو الكذب، ولا ثوابت فيها ولا قيم، وحلفاء اليوم هم أعداء الغد والعكس دون النظر للمواقف والمروءة والشجاعة والشرف، هي المصالح أولاً وأخيراً.
والحقيقة الغائبة عن معظم سياسيي اليوم أنه لا يمكن الحديث عن السياسة بمعزل عن الأخلاق، فالأخلاق تمثل البوصلة التي توجه صانعي القرار وتحدد معايير التعامل مع القضايا العامة.
في عالم يزداد تعقيدًا وتتشابك فيه المصالح، تبرز الأخلاق كعنصر حاسم يضمن العدالة، الشفافية، والمساواة؛ حيث إن غياب الأخلاق في الممارسة السياسية لا يؤدي فقط إلى تفاقم الأزمات، بل يُضعف الثقة بين القادة والمجتمعات؛ ما يهدد الاستقرار المجتمعي.
وفي هذا المقال، نستعرض أهمية الأخلاق في السياسة كضرورة مجتمعية وعالمية، ونناقش كيف يمكن للسياسات المبنية على القيم أن تساهم بشكل كبير في بناء دول قوية.
مفهوم السياسة الأخلاقية(1)
السياسة الأخلاقية تعني ممارسة السياسة وفق مبادئ وقيم أخلاقية تهدف إلى تحقيق مجموعة من القيم المستمدة من شريعة السماء التي تهدف لإسعاد الإنسان في الدنيا والآخرة، مثل قيم العدالة، المساواة، واحترام حقوق الإنسان، وهي تركز على استخدام السلطة والنفوذ لخدمة الصالح العام بدلاً من المصالح الشخصية أو الفئوية.
وهذا المفهوم لا يعني الانفصال عن الواقع العملي أو تجاهل تعقيدات الحياة السياسية، بل يؤكد أن القرارات والسياسات يجب أن تستند إلى معايير أخلاقية تضع رفاهية الإنسان والمجتمع في المقام الأول، والسياسة الأخلاقية تشمل الشفافية في صنع القرار، والالتزام بالوعود، ومكافحة الفساد، وتعزيز الثقة بين الحاكم والمحكوم.
أو هي ببساطة عملية دمج سلسة بين الممارسة السياسية من جانب، والقيم الإنسانية والإسلامية العليا من جانب آخر؛ ما يجعلها وسيلة لاستقرار المجتمع ونشر مبادئ المحبة والوئام والتكامل بين لبنات المجتمع الواحد.
لماذا ضرورة الأخلاق في السياسة؟
لنا أن نتخيل مشهد العالم وطبيعته إذا فرغ من الأخلاق السماوية أو الإنسانية لنرى كم العنف الذي يمكن أن يهدد حياة البشر ومستقبلهم خاصة الضعفاء منهم، لنا أن نطلق لخيالنا العنان إذا تجبر الحكام والمحتلون إذا تخلوا عن العامل الأخلاقي في تعاملهم مع شعوبهم!
وما يحدث في غزة على مدار الساعة ليس ببعيد عنا من قتل جماعي للأطفال والنساء والمدنيين خارج إطار الحرب، وقتل الأسرى وتعذيبهم والتنكيل بهم دون خوف من رقيب، وتحت مسمع ومرأى العالم كله دون أن يملك أحد وقف هذا العبث، إن إسقاط الأخلاق على عالم السياسة هو تهذيب لكل فعل وكل قرار يصدر عن سياسي قبل أن يشوه به كافة المعاني الإنسانية.
وبالحديث عن بواكير الإشارة الفلسفية إلى العلاقة بين السياسة والأخلاق تظهر أفكار الفيلسوف اليوناني أفلاطون حينما مزج بين السياسة والأخلاق في مدينته الوهمية المسماة بـ«المدينة الفاضلة»(2)، مقرراً أن أساس الملك 4 فضائل، هي:
1- الحكمة، وهي الجانب الفلسفي.
2- الشجاعة، وهي الجانب الطبيعي.
3- العفة، وهي الجانب النفسي.
4- العدالة، وهي الجانب السياسي.
وقد وضع أفلاطون أسس مدينته الفاضلة لتظل مجرد خيال في عقله وفكرة فلسفية يتوارثها المعنيون دون أن تتحول الفكرة لواقع يعيشه الناس.
النموذج الإسلامي العملي في السياسة الأخلاقية
لقد ظلت فكرة أفلاطون حلماً لكل من يتوق للحرية، فلم يخرج يوماً عن كونه حلماً، وظلت البشرية في حالة الحلم المستحيل حين صار الإنسان عبداً مملوكاً يُباع ويشترى في الحضارة الرومانية والفارسية وفي أرض العرب.
انتظر الجميع حلم الأخلاق والعدالة والمساواة الإنسانية النابعة من عقيدة كالجبال، ورقابة ذاتية تتصل بدين ارتضاه رب العالمين لعباده ليختم به رسالاته، حتى أتى الإسلام ورسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه رب العالمين: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)، وقال فيه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159)، فارتوت السياسة والحكم بالأخلاق والرحمة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (واه البخاري)، ويقول: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ..»، وذكر في أولهم: «إِمَامٌ عَادِلٌ» (رواه البخاري).
وخلق العدل من أرفع أخلاق الحاكم، ويقول عليه الصلاة والسلام: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» (رواه مسلم)،
الأساس الأخلاقي والقيمي في وضع السياسات في الإسلام
تُعتبر الأخلاق والقيم في الإسلام الأساس والمنطلق لوضع السياسات العامة للمجتمع المسلم، فالشريعة الإسلامية لا تفصل بين الدين والدنيا، بل ترى أن الدين يشمل جميع جوانب الحياة، بما فيها السياسة، ومن هذه القواعد:
– العدل والمساواة: يعتبر العدل من أهم القيم الإسلامية، فيقول تعالى: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ) (الشورى: 15).
– الأمانة والصدق: يقو أبو بكر رضي الله عنه: «الصدق أمانة والكذب خيانة»، فقد أعلن الصّدِّيق مبدأ أساسياً تقوم عليه خطته في قيادة الأمة؛ وهو أن الصدق بين الحاكم والأمة هو أساس التعامل، وهذا المبدأ السياسي الحكيم له الأثر المهم في قوة الأمة حيث ترسيخ جسور الثقة بينها وبين حاكمها.
إن شعوب العالم اليوم تحتاج إلى هذا النهج الرباني في التعامل بين الحاكم والمحكوم لكي تقاوم أساليب تزوير الانتخابات وتلفيق التهم، واستخدام الإعلام وسيلة لترويج اتهامات باطلة لمن يعارضون الحكام أو ينتقدونهم، ولا بد من إشراف الأمة على التزام الحكام بالصدق والأمانة من خلال مؤسساتها التي تساعدها على تقويم ومحاسبة الحكام إذا انحرفوا، فتمنعهم من سرقة إرادتها وشرفها، وحريتها وأموالها(3).
– الرحمة والتسامح: وقد خاطب الله تعالى نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، وبقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (سبأ: 28).
– العدل الاجتماعي: ولقد جاء الإسلام ليرسخ مفاهيم العدل الاجتماعي والتكافل والبذل والصدقات والزكاة المفروضة، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به»، ويقول الله تعالى في تنظيم العلاقة بين المؤمنين: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 71).
_______________________
(1) أخلاقيات سياسية على ويكيبيديا، مقال بين الأخلاق والسياسة وبناء الدولة: فصام خاطئ والتقاء صحيح، على موقع العربية، بتصرف.
(2) المدينة الفاضلة (Utopia) من أشهر المواضيع الفلسفية التي أثارها أفلاطون في فلسفته، وهي مدينة خيالية يحلم بأن يسكنها أُناس طيبون يعيشون فيها في سلام ووئام لا يعرفون فيها الغل ولا الحسد، وقد ذكرها في كتابة المسمى «جمهورية أفلاطون».
(3) د. محمد علي الصلابي، كتاب أبو بكر الصديق، ص 139.