حين يتردد الإنسان بين أمرين، ويبدأ في النظر إليهما بعين الاختيار، فإنه في هذه الحالة يظن أن أحدهما أفضل من الآخر، وهذا هو معنى الظّنّ، فهو: التّردّد بين أمرين استويا أو ترجّح أحدهما على الآخر.
وحسن الظّنّ ترجيح جانب الخير على جانب الشّرّ، وهذا الظن الحسن يدل على إيمان صاحبه بالله تعالى، حيث قال سبحانه: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا) (النور: 12)، فقد وصف الله المؤمنين والمؤمنات بإحسان الظن، كما يسهم حسن الظن في راحة البال وسكينة النفس والترابط والاستقرار المجتمعي، وهذه بعض المعينات على إحسان الظن بالآخرين.
1- حمل أمر الناس على الصلاح:
ينبغي للمسلم أن يفترض في إخوانه الخير، ولا يترك مجالاً للشيطان أن يوغر صدره تجاههم لمجرد الظنون والأوهام، بل حتى بسبب بعض الكلمات المتناثرة التي لا رصيد لها من الحقيقة.
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى بعض الناس أن ينقلوا إليه كلاماً عن أصحابه، حتى لا تتغير نفسه، وحتى يظل على سلامة صدره تجاههم، ففي مسند أحمد، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أن رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا؛ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ».
2- التماس الأعذار:
قال عمر بن الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه: لا يحِلُّ لامرئ مسلمٍ سَمِع من أخيه كَلِمةً أن يظُنَّ بها سوءًا، وهو يجِدُ لها في شيءٍ من الخيرِ مَصدَرًا(1).
وقال عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه: مَن عَلِم من أخيه مروءةً جميلةً فلا يسمَعَنَّ فيه مقالاتِ الرِّجالِ(2).
وقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: الْمُؤْمِنُ يَطْلُبُ الْمَعَاذِيرَ وَالْمُنَافِقُ يَطْلُبُ الْعَثَرَاتِ(3)، وعن أبي قلابة قال: إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد له عذراً فقل في نفسك: لعل لأخي عذراً لا أعلمه(4).
3- التبين قبل الحكم والتصرف:
قد تصل إلى مسامعنا بعض الكلمات أو المواقف التي يفعلها الغير، وقد تبدو هذه المواقف أو الكلمات في جانب الشر، إما في ظاهرها أو بسبب تدخل الناقل لها ببعض الزيادة أو النقص، وهنا ينبغي للمسلم ألا يصدق هذا الكلام ولا يفترض في قائله السوء إلا بعد أن يتبين من ذلك، فإن التسرع في إصدار الأحكام دون تبين يؤدي إلى عواقب وخيمة؛ يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6)؛ فالمسلم يتثبت أولاً من الكلام المنقول إليه، ثم يعطي صاحبه الفرصة في بيان وجهة نظره من قوله، ثم بعد ذلك يستطيع أن يحكم ويتصرف بما أراد.
4- استحضار محاسن الناس وصفاتهم الإيجابية:
يعتبر صرف النظر عن جوانب السوء وتركيزه على جوانب الخير الموجودة لدى الناس وسيلة مهمة في إحسان الظن بهم، فالْمُؤْمِنُ الْكَرِيمُ يُحْضِرُ فِي نَفْسِهِ مَحَاسِنَ أَخِيهِ لِيَنْبَعِثَ مِنْ قَلْبِهِ التَّوْقِيرُ وَالْوُدُّ وَالِاحْتِرَامُ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ اللَّئِيمُ فَإِنَّهُ أبداً يلاحظ المساوي وَالْعُيُوبَ(5).
ومما يدل على ذلك ما رواه البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَاللهِ، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ»، فالنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى حبه لله ورسوله كجانب من جوانب الخير في حياته، وهذا يساعد في إحسان الظن به.
ومما يدل على أثر تذكر الصفات الإيجابية في إحسان الظن بالآخرين ما أخرجه البخاري، ومسلم، في قصَّةِ الثَّلاثةِ الذين تخلَّفوا عن غزوةِ «تَبوكَ»، قال كَعبُ بنُ مالكٍ: ولم يذكُرْني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَتَّى بَلغَ «تَبوكَ»، فقال وهو جالسٌ في القَومِ بـ«تَبوكَ»: «ما فعل كَعبٌ؟!»، فقال رَجُلٌ مِن بَني سَلِمةَ: يا رَسولَ اللهِ، حَبَسه بُرداه، ونَظَرُه في عِطفِه! فقال معاذُ بنُ جَبَلٍ: بئسَ ما قُلتَ! واللهِ يا رَسولَ اللهِ ما عَلِمْنا عليه إلَّا خَيرًا.
5- إنزال النفس منزلة الغير:
على المسلم أن يحب الخير للناس كما يحب لنفسه، فإنه إن فعل ذلك؛ أحسن الظن بهم، لأنه يحب من الناس أن يحسنوا الظن به، ففي صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».
6- تجنب الحكم على النيات:
مما هو ثابت في القواعد الإسلامية أننا نحكم على الظاهر من تصرفات الناس، والله يتولى السرائر، فلا ينبغي أن نحاكم نوايا الناس، لأننا لم نشق عن صدورهم أو ندخل في نفوسهم ونتعرف على نواياهم، وهذا يؤدي إلى حسن الظن بهم.
ومن الأمثلة الضابطة في ذلك ما رواه أحمد في مسنده عن أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْحُرَقَةِ، مِنْ جُهَيْنَةَ، قَالَ: فَصَبَّحْنَاهُمْ، فَقَاتَلْنَاهُمْ، فَكَانَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، إِذَا أَقْبَلَ الْقَوْمُ كَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ عَلَيْنَا، وَإِذَا أَدْبَرُوا كَانَ حَامِيَتَهُمْ، قَالَ: فَغَشِيتُهُ، أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: فَلَمَّا غَشِينَاه، قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِيُّ، وَقَتَلْتُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟»، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا مِنَ الْقَتْلِ، فَكَرَّرَهَا عَلَيَّ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ.
_____________________
(1) ترتيب المدارك: القاضي عياض (4/ 134).
(2) شرح صحيح البخاري: ابن بطال (9/261).
(3) إحياء علوم الدين: الغزالي (2/ 177).
(4) حلية الأولياء: الأصبهاني (2/ 285).
(5) إحياء علوم الدين: الغزالي (2/ 177).