منذ 3 سنوات، عادت جنين لتصدر مشهد المقاومة في الضفة الغربية، بعد أن كانت المدينة آخر موقع توقفت فيه المقاومة في الضفة الغربية في نهاية «انتفاضة الأقصى»، بعد التسويات التي قامت بها السلطة مع المطاردين في عام 2007م عبر خطة «دايتون» الجنرال الأمريكي الذي قاد عملية إصلاح أجهزة السلطة الفلسطينية الأمنية بعد «انتفاضة الأقصى»، التي وضعت في صلب عملها وقف المقاومة، وأن تدار الأجهزة الأمنية الفلسطينية عبر منسق أمريكي ومعه مجموعة من الضباط الأمريكيين ينتشرون على كامل جغرافيا الضفة لمراقبة سلوك الأجهزة، والتأكد من قيامها بملاحقة المقاومة، وتجفيف مواردها المالية والعسكرية.
وأصبحت المدينة عبارة عن نموذج تغنّى فيه الأمريكيون و«الإسرائيليون» ضمن ما يعرف بـ«الفلسطيني الجديد»؛ وهو مصطلح أطلقته أجهزة أمن العدو على عملية تحول أولويات جمهور عاصمة المقاومة لفلسطين خلال «انتفاضة الأقصى»، حيث كان إعلام العدو يحتفل بكل مظهر يدل على تبدل أولوية جمهور المدينة سواء الرفاه الاقتصادي أو تسلل الاحتفالات الغنائية وغيره من المظاهر التي كان يرصدها العدو على أنها أدلة على نجاح مشروعه فيما يسمى الفلسطيني الجديد، وهذا التحول اكتسب أهميته لأنه قادم من المدينة التي خاضت أقسى المعارك أمام جيش العدو الصهيوني في «انتفاضة الأقصى» فيما صار يعرف بـ«معركة جنين».
نيسان له معنى كبير في ذاكرة المدينة، فلا يمكن لجنين أن تنساه ولا مخيمها تحديداً، حيث تحصن ما يقرب من 150- 200 مقاتل من المقاومة الفلسطينية داخل المخيم عام 2002م، وتصدوا لقوات الاحتلال التي حشدت فرقة عسكرية على المدينة لاحتلالها، بينما شملت العملية العسكرية عملية ترحيل السكان وتدمير المخيم للقضاء على المقاومين، ورغم تمكن العدو من إنهاء المعركة في 10 أيام، فإن نتائجها كانت قاسية على جيش العدو أمام مقاومين لم يمتلكوا سوى الأسلحة الخفيفة والعبوات الناسفة، حيث قتل 23 جندياً، وجرح 123 بعضهم أصبح يعاني نفسياً نتيجة تعرضه لانفجار العبوات والمتفجرات داخل المخيم، بينما ظلت قصص بسالة المقاومين في الصمود والتصدي للعدو حاضرة ولسنوات طويلة في الوعي الجمعي للفلسطينيين، وكانت أولى عمليات البيوت المفخخة داخل فلسطين المحتلة.
ورغم العملية الاستئصالية التي قام بها العدو «الإسرائيلي» ضد المقاومة في جنين خلال «السور الواقي»، فإن المقاومة عادت لترمم نفسها في المخيم، ويخرج جيل جديد من المقاومين يحمل البندقية، ففي المخيم لا تسقط البندقية، فالبندقية هي حارسة حلم العودة الذي ما زال ينتظره سكان المخيم المهجرين منذ عام 1948م، بينما أزقة المخيم وحاراته تحمل أسماء مدن وقرى فلسطينية في أرضينا المحتلة عام 1948م أو عائلات مهجرة من هناك، كما أن للمقاومة والبندقية تاريخاً ممتداً منذ بدء الاحتلال البريطاني لفلسطين، ففيها معركة الشيخ عز الدين القسام في أحراش بلدة يعبد، بينما كانت المدينة مركزاً للثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م، التي استمرت حتى عام 1939م، تعرضت فيها المدينة لعملية تدمير واسعة على يد الاحتلال البريطاني.
تقع المدينة في شمال الضفة الغربية، وهي مطلة على سهل مرج بن عامر أحد أكبر سهول فلسطين، حيث تقع المدينة على بداية السلسلة الجبلية لجبال نابلس المطلة على سهل مرج بن عامر من الجهة الجنوبية، وفي الطرف الآخر من السهل تطل عليه سلسلة جبال الجليل، تمتاز المدينة بأرضها الخصبة زراعياً، فكثير من أبنائها يحترفون الزراعة كمصدر رزق رئيس أو عامل ثانوي لجانب أعمالهم الرئيسة.
لماذا جنين الآن؟
عادت المدينة لتأخذ دورها في المقاومة منذ عام 2021م بعد معركة «سيف القدس»، ومرت المقاومة في المدينة بعدة مراحل، وتطورت من مبادرة محلية صنعها شباب المدينة الذي حمل السلاح وعبر عن موقفه الوطني في معركة «سيف القدس» بإطلاق النار على الحواجز والتصدي لعمليات الاقتحام التي يقوم بها جيش العدو الصهيوني، لعمليات تصنيع العبوات والتصدي لآليات العدو بالمتفجرات التي تشير الإحصاءات لإعطاب أكثر من 100 آلية بعدها تعرض للتدمير الكامل ومقتل وإصابة عدد من جنود داخلها في العام 2024م، كما أن المدينة ساهمت في توسع المقاومة في شمال الضفة في مدينة طولكرم تحديداً.
نفذ العدو عمليات عسكرية ضد المدينة بعضها استمر لأسبوعين، حيث حشد العدو لواء عسكرياً كاملاً من النخبة مع عدد من الكتائب العسكرية على المدينة، لكنه فشل في إنهاء المقاومة رغم ما تعرضت له المقاومة من ضربات، حيث أصبحت المقاومة أكثر اعتماداً على الكمائن، وأصبح انتشارها مبنياً على خطة دفاعية تقوم على تنفيذ مجموعة من الكمائن وانسحاب المقاتلين من ميدان المواجهة، مع الاستمرار في تنفيذ الكمائن وانتشارها الجغرافي وتوزعها الزماني.
هذا التطور أقلق العدو الصهيوني الذي رأى أن المدينة تسير على طريق استنزاف قوات العدو، وتربك حساباته الأمنية في بقعة جغرافيا يعتبرها الأعقد والأكثر حساسية لأمنه القومي وهي الضفة الغربية.
ضمن خطط العدو لمواجهة المقاومة في الضفة، ظلت السلطة حاضرة في بيئة أجهزة الاستخبارات، حيث تعمل السلطة وبشكل فعال على نقل المعلومات للعدو ضمن سياسة التنسيق الأمني، ونتيجة لذلك تحملت المقاومة أثماناً كبيرة نتيجة سياسة التنسيق الأمني، فالسلطة لها بيئتها المتداخلة مع الشعب الفلسطيني ومقاومته، وتستطيع الوصول لمعلومات أكثر دقة عن المعلومات التي يستطيع العدو الوصول لها.
كانت مقاربة أجهزة أمن العدو هي الحفاظ على السلطة كأولوية في ظل تصنيف الضفة لجبهة داخلية، وبالتالي كانت توصيات تلك الأجهزة أن يبقى دور السلطة استخبارياً، والابتعاد عن كل عامل يمس باستقرارها، من أجل أن تظل السلطة قادرة على إمساك زمام الضفة وعدم تحولها لجبهة مواجهة رئيسة؛ لأن ذلك يعني تبدل أولويات الجيش وسيضطره لإعادة انتشار قواته، في ظل انشغاله بجبهات القتال في غزة ولبنان.
بعد توقف جبهة لبنان، وتراجع مستوى القتال في قطاع غزة، تراجعت الحاجة لدور السلطة بالحفاظ على الهدوء داخل الضفة في ظل تحسن البيئة العملياتية للجيش، ولذلك قرر العدو الضغط على السلطة من أجل إنهاء ظاهرة المقاومة، ولو بثمن توتر الأوضاع في الضفة وتأثيرها على صورة السلطة أمام الجمهور الفلسطيني؛ وبالتالي تراجع المساحة التي كانت تقوم عبرها بإدارة مشهد منع المواجهة في الضفة الغربية، وأصبح الدور التدخل المباشر من السلطة بقوتها الأمنية على الأرض لإثبات جدوى وجودها وأهميتها أمام الطرف الأمريكي والعدو «الإسرائيلي»، خاصة أن أدوات الضغط الأمريكية و«الإسرائيلية» متنوعة ومؤثرة خاصة الشق المالي منها، بالإضافة لشبكة المصالح والامتيازات التي يمنحها العدو «الإسرائيلي» لفئات حاكمة ومؤثرة داخل السلطة في حرية الحركة والتجارة ونقل الأموال.
الاختبار الذي وضعه الاحتلال أمام السلطة هو إنهاء المقاومة في مدينة جنين، وهو اختبار فشل العدو «الإسرائيلي» في تحقيقه، بينما تشهد المواجهة في جنين بين السلطة والمقاومة أحداثاً غير مسبوقة في الضفة الغربية، باستخدام أجهزة السلطة أسلحة مضادة للدروع ضد المقاومة، وحرق بيوت عائلات مطلوبين وشهداء من أبناء المقاومة، وقطع الخدمات بشكل كامل عن المخيم ومنع الدخول إليه والخروج منه.
الأزمة غير المسبوقة داخلياً على المستوى الفلسطيني، تواجه معارضة شعبية كبيرة ونخبوية من النخب السياسية الفلسطينية، التي حاولت طرح مبادرات من أجل وقف هجوم السلطة العسكري على المدينة، وذلك في ظل قراءة تلك النخب أن حاجة الشعب الفلسطيني في الضفة رص الصفوف والحفاظ على جذوة المقاومة من أجل مواجهة المشروع الاستيطاني، التهديد الاستيطاني الذي لا يظهر كأولوية في أجندة السلطة وقيادتها، التي أصبحت جميع خطاباتها السياسية تتركز على مفاهيم السيادة ووحدانية السلاح في مواجهة المقاومة، بينما لا يتم الحديث عن وحدانية السلاح والسيادة في مواجهة الاستيطان والمستوطنين.