من الصعب أن أجد كلمات تواسي أُماً حملت رضيعها ونزحت به مرات عديدة من منطقة لأخرى تحت وابل الصواريخ والجوع والقهر، وما أن وقفت لتلتقط أنفاسها تحت خيمة مهترئة حتى تشعر في برد ليس في جسدها فحسب؛ بل في قلبها، ذلك القلب الذي يعتصر وجعاً على رضيعها الذي توفي برداً، فقد تجمدت أطرافه وازرقَّ وجهه، وتوقف قلبه عن النبض ولم يعد للشهيق والزفير حركة للنفس أو حتى صوت خافت، الأمر الذي جعله جثة متجمدة من البرد.
مات متجمداً
كيف للكلمات أن تواسيها؟! فالألم كبير والجرح غائر، فقد حملته في شهور حملها التسعة تحت وابل الصواريخ والجوع والتعب والمعاناة والخوف، كانت تعد الأيام التي نجت منها من موت كان يلاحقها في كل صاروخ يطلق.
ميلادها كذلك لم يكن سهلاً، ليس لوجع المخاض فحسب؛ بل اجتمع عليها الخوف والجوع وقصف المستشفى أثناء ولادتها، ومع ذلك نجت في أعجوبة كبيرة وهي تحمل رضيعها.
تم إجبارها على النزوح من شمال قطاع غزة تحت تهديد القصف العنيف ومحاصرة الدبابات لها، ورغم كل ذلك فقد نجت وهي تحمل رضيعها.
خيمة الموت
كانت أمومتها أكبر من كل هذا التعب والوجع والخوف، فكانت بمثابة جيش تحمي بها طفلها، إلا أنها حاولت تكراراً أن تجد مكاناً يصلح لطفلها لكن دون جدوى، فلم يكن أمامها إلا خيمة أو بالأصح قطع من القماش والنايلون شكلتها أيديها المتعبة لتأوي إليها.
كل ذلك الوجع كان يبلسمه صوت رضيعها حيث كانت تجد في صوته شيئاً من القوة لأمومتها بالوقف مجدداً رغم كل المعاناة التي هزمتها في هذه الحرب، هذا الصوت قد اختفى ولم يعد له وجود، فقد تجمد رضيعها وتوقف قلبه، فكان متجمداً بارداً جداً أشبه ما يكون بقطعة ثلج!
محاولات فاشلة
كل محاولاتها بأن تمنحه الدفء كانت تبوء بالفشل مع انخفاض درجات الحرارة وخاصة في ليالي غزة الباردة.
الأطفال في غزة يخوضون أشرس الحروب رغم صغر حجم أجسادهم الهزيلة الجائعة في معركة ظالمة خالية من الأخلاق والإنسانية لعدو تجرد من آدميته في استهدافه وقتله للأطفال بشكل متعمد، فهو يرى انتصاره المزعوم على حساب الأطفال بأعدادهم الكبيرة التي كانت تشكل بنك أهداف له.
معركة المرض
الطفل الذي لم يمزق جسده الصاروخ ويجعله أشلاء متناثرة لا يعني ذلك أنه قد نجا من القتل؛ بل أمامه العديد من المعارك التي يخوضها، فمنها معركة النزوح وفقدانه لأبسط حقوقه في الأمان، ومعركة الخوف التي كثيراً ما أسقطت شعر رأسه وأدخلته في صدمة نفسية بعد أن شاهد كل أفراد أسرته عبارة عن أشلاء.
وكذلك معركة المرض، فظروف الحرب غير الإنسانية خلفت العديد من الأمراض التي عجز الأطباء عن علاجها بعد أن نفدت المستلزمات الطبية والأدوية، وكثير من عمليات البتر كانت تتم لهم بدون مادة تخدير، قد لا يتصور العقل ذلك لكنه في غزة قد حصل بعد نفاد مادة التخدير.
معركة الجوع
الطفل في غزة جسده أصغر بكثير أن يتحمل حرباً طاحنة لم تحرمه من مدرسته وبيته واللعب فحسب، بل حرمته من عائلته التي ارتقت جميعها، والأمر لم يتوقف بذلك، فعليه أن يخوض معركة الجوع التي نالت من صحته ووزنه فقد هزل جسده وضعفت قوته.
الكثير من الأطفال قتلهم الاحتلال في معركة الجوع وسوء التغذية، فالعديد منهم كان يتمنى تناول خبزة أو قطعة لحمة أو حلوى، لا نعلم بأي لغة وبأي كلمات ممكن أن تحرك ثبات العالم الذي لم يحركه قتل الأطفال وتمزيق أشلائهم وهم جوعى، وقد تجمدت أجسادهم؟!