لم يكن قد مرَّ على العدوان الصهيوني على غزة غير أسبوع واحد فقط حين صرحت فرانشيسكا ألبانيز، مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، قائلة: «نفّذت «إسرائيل» في الواقع تطهيرًا عرقيًّا جماعيًّا للفلسطينيين بحجّة الحرب، وهي تسعى باسم الدفاع عن النفس، إلى تبرير ما يرقى إلى مستوى التطهير العرقي» (راجع: موقع الأمم المتحدة).
وتابعت مقررة الأمم المتحدة: «هناك خطر جسيم بأنّ ما نشهده اليوم يشكّل تكرارًا لنكبة عام 1948 ونكسة عام 1967م، ولكن على نطاق أوسع بعد، على المجتمع الدولي أن يبذل كل جهد ممكن كي يمنع وقوع أحداث مماثلة من جديد».
وأشارت إلى أن المسؤولين الحكوميين «الإسرائيليين» قد دافعوا صراحة عن ارتكاب «نكبة» أخرى، وهي عبارة تصف الأحداث التي وقعت بين العامَيْن 1947 و1949م عندما طُرد أكثر من 750 ألف فلسطيني من ديارهم وأراضيهم في سياق الأعمال العدائية التي أدّت إلى قيام «إسرائيل»، أمّا «النكسة» التي أدت إلى احتلال «إسرائيل» للضفة الغربية وقطاع غزة في العام 1967م، فشردت 350 ألف فلسطيني.
وشدّدت ألبانيز قائلة: تجاوزت أي عمليات عسكرية مستمرة تقوم بها «إسرائيل» حدودَ القانون الدولي، وعلى المجتمع الدولي وضع حدّ فوري لهذه الانتهاكات الفظيعة للقانون الدولي، قبل أن يكرّر التاريخ المأساوي نفسه.
هذا التصريح المهم من مقررة الأمم المتحدة صدر بعد أسبوع واحد فقط من العدوان الصهيوني على غزة، أي يوم 14 أكتوبر 2023م، وكان العدوان ما زال في بداياته، وعدد الشهداء لم يتجاوز الألفَيْ شهيد، فكيف يمكن القول بعد مُضيّ عام وثلاثة أشهر على هذا العدوان غير المسبوق في تاريخ القضية الفلسطينية، ووصول عدد الشهداء إلى أكثر من 45 ألف شهيد!
إن كلمات مثل التطهير العرقي أو الإبادة الجماعية أو تكرار النكبة لا تبدو كافية لأن تعكس حقيقة ما يجري على الأرض، من إزالة حياة كاملة من الوجود، بكل تفاصيلها وما فيها من بشر ومجتمع ومدارس ومساجد ومستشفيات وبُنَى تحتية!
شهادة من الداخل
لم تكن تصريحات المقررة الأمية وحدها شاهدة على ما يرتكبه الكيان من جريمة التطهير العرقي، فقد قالت صحيفة «هاآرتس»، في افتتاحيتها (10 نوفمبر 2024م): إن الجيش «الإسرائيلي» يقوم بعملية تطهير عرقي في شمال قطاع غزة، يتم خلالها تهجير الفلسطينيين القلائل الذين بقوا في المنطقة بالقوة، وتدمير المنازل والبنية التحتية، وشق طرق واسعة في المنطقة، كما تشمل العملية استكمال فصل التجمعات السكانية في شمال القطاع عن وسط مدينة غزة. (موقع الجزيرة نت).
واستندت الصحيفة في افتتاحيتها إلى تقرير لمراسلها العسكري خلص فيه إلى أن «المنطقة تبدو وكأنها تعرضت لكارثة طبيعية»، غير أن الصحيفة لا تعتبر ما شاهده مراسلُها كارثة طبيعية، وإنما عمل تدميري مبيّت مع سبق الإصرار، مشيرة إلى أن صحيفة «غارديان» البريطانية نقلت عن ضابط كبير في الجيش «الإسرائيلي»، وهو العميد إيتسيك كوهين، قائد «الفرقة 162»، نفيه للصحفيين أن تكون هناك نية للسماح بعودة سكان شمال قطاع غزة إلى منازلهم.
وعندما سُئل كوهين عما إذا كان الجيش ينفذ «خطة الجنرالات» لطرد الفلسطينيين من شمالي قطاع غزة مع حجب المساعدات الإنسانية عن الباقين وتجويعهم، أجاب بأنه لا يعرف شيئًا عن خطة الجنرالات، قائلاً: نحن نتصرف بناءً على تعليمات القيادة الجنوبية ورئيس الأركان.
حصاد عام من الجريمة
بحسب تقرير مفصل للمركز الفلسطيني للدراسات «الإسرائيلية» (12 ديسمبر 2024م)، فإن من أبرز نتائج حرب الإبادة على قطاع غزة التدمير الممنهج لمعالم الحياة الاجتماعية، وترك المجتمع في حالة فراغ تنظيمي، بدون أطر قانونية أو إدارية أو بنى تحتية حيوية.
فمع نهاية عام 2024م، دمرت «إسرائيل» 63% من المنازل، وهجرت 90% من سكان القطاع، محوّلة إياهم إلى سكان خيام، كما دمرت نحو 84% من المنشآت الصحية، و92% من شبكات الطرق والمياه والكهرباء بشكل شبه كامل، تاركة خلفها ما يقارب 40 مليون طن من الحطام، يُقدر أن رفعه سيستغرق نحو 15 عامًا.
هذا بخلاف ما يجري من تطهير عرقي كامل في شمالي القطاع، تطبيقًا لـ«خطة الجنرالات»، في صمت إعلامي تجنبًا لما قد يكون من استنكار شكلي من المجتمع الدولي!
قتل أصحاب القضية
وإذا كان التطهير العرقي في جزء من وسائله يهدف إلى طرد مجموعة سكانية ما، وتحويلهم إلى لاجئين مع هدم البيوت التي تم إجلاؤهم منها (راجع المزيد في: التطهير العرقي في فلسطين، إيلان بابيه)؛ فإن إجرام الكيان الصهيوني تعدى ذلك إلى قتل أصحاب القضية والتخلص منهم، حتى لا تعود ثمة قضية من الأساس!
ولعل إيغال الكيان الصهيوني في جريمة التطهير العرقي، ومن خلال وسائل القتل وتدمير المنازل والمستشفيات وحرق مراكز الإيواء والمدارس، قد جاء بعد فشل مشروعات التهجير، التي تردد صداها في بداية العدوان، فكان أن لجأ الكيان إلى الإيغال في قتل أصحاب القضية، وسفك المزيد من الدماء، والعمل على إعادة رسم خريطة القطاع سكانيًّا وجغرافيًّا.
والمؤسف أن الأصوات العربية التي كانت تندد بما يُعلَن عن خطط التهجير، التزمت الصمت أمام خطط الإبادة والتطهير بالقتل، فلربما أرادت هي الأخرى أن تتخلص من أصحاب القضية، الذين يُذكّر وجودُهم بالقضية، فضلاً عن التخلص من مضاعفات المضي في خطط التهجير!
ونختم بالإشارة إلى أن الكيان الصهيوني في بداية العدوان كان مضطرًا لتبرير عدوانه على مستشفى الشفاء، فزعم أن تحته أنفاقًا لـ«حماس»، بينما الآن لم يعد بحاجة لهذا التبرير، وكانت النتيجة تدمير مستشفى بعد آخر، كما يحدث في قصف مستشفى العودة وحصار المستشفى الإندونيسي، شمالي غزة، بعد حصار وتدمير وحرق مستشفى كمال عدوان، واعتقال مديره د. حسام أبو صفية، أي أن خطط التطهير العرقي تَمضي بأمانٍ تام من المساءلة، فضلاً عن العقاب!