كاتب المدونة: عبدالرزاق العلي (*)
قامت الثورة السورية التحريرية بتاريخ 8 ديسمبر 2024م، تاريخ لن ينساه السوريون أبد الدهر، تاريخ كان رمزًا لأخذ سورية المخطوفة من قبل عائلة أصبح الإجرام والاستبداد يجري في عروقها، إلى سورية الجديدة التي بدأت تتنفس صعيد الحرية، ثورة بثت الروح من جديد في دماء السوريين بعدما أصيبوا جميعًا باليأس في داخل الوطن وخارجه، كان يشعر كل سوري بأنه في سجن ويأس كبير حتى ولو حمل كل جوازات سفر الدنيا ما دام ممنوعًا عن وطنه الأم، ممنوعاً أن يدخله أو أن يتحدث عنه، أو يحضن ترابه، حتى جاءت ثورة التحرير وأحيت الأمل والوطن داخل كل سوري، ولكن ظلت الفرحة ناقصة بما أن المنطقة الشرقية الإستراتيجية من سورية ما زالت مخطوفة من قبل الإدارة الذاتية «قسد» المدعومة من أمريكا، فلا يوجد في العالم نزاع أو قهر أو استبداد أو قتل أو أرض مخطوفة إلا أمريكا خلفها، فالمنطقة الشرقية منطقة حيوية تاريخية وتمثل عنصراً جيوستراتيجياً لسورية ولدول الجوار، فلذلك ما زالت مخطوفة؛ فهي تضم محافظات دير الزور والرقة والحسكة، واحدة من أبهى وأهم مناطق البلاد تاريخيًا وجغرافيًا.
هذه المنطقة لم تكن فقط معبرًا للحضارات والتجارة، بل أصبحت اليوم مركزًا إستراتيجيًا للصراعات والتحولات الجيوسياسية، ولذلك بسبب عدة مؤشرات تاريخية وسياسية واقتصادية، وهي تتمثل في الآتي:
فمن المؤشرات الحيوية التاريخية للمنطقة، أنها كانت مهد الحضارات القديمة، حيث تمثل محور الحضارات في ميزان التاريخ، فكان نهر الفرات شريان الحياة للمنطقة، ومساهمًا في تطور الزراعة وازدهار المدن القديمة، فلذلك أدت المنطقة الشرقية دورًا مركزيًا في نشوء الحضارات القديمة على ضفاف الفرات كالسومرية والآكدية وغيرهما، وكان العديد من المواقع الأثرية شاهدة على ذلك، مثل: مواقع ماري ودورا أوروبوس في دير الزور، وتل حلف في الحسكة، لتعكس أهمية هذه المنطقة كمركز للثقافة والتجارة بين بلاد الرافدين وسورية القديمة، وأيضًا في الحقبة الإسلامية كانت المنطقة محطة رئيسة على طريق التجارة بين العراق وبلاد الشام خلال العصرين الأموي والعباسي، وكذلك في العهد العثماني حافظت المنطقة على مكانتها كجزء إستراتيجي من ولاية حلب، حيث أدت دورًا اقتصاديًا مهمًا في ربط الشام بالأناضول والعراق، ولذلك تركت هذه الحقب إرثًا ثقافيًا ودينيًا وتاريخيًا ما زال حاضرًا في معالم المنطقة حتى هذه اللحظة.
أما عن المؤشر والبعد الحيوي للموقع الجيواستراتيجي للمنطقة الشرقية، حيث تقع المنطقة جغرافيًا عند تقاطع الطرق بين العراق وتركيا والشام؛ ما يجعلها مفتاحًا للتحكم في حركة التجارة والطاقة، ومن هذا الموقع الجغرافي، اكتسبت المنطقة بُعداً جيوستراتيجياً في تشكيل التحالفات الإقليمية، ومن ثم بروز التنافس الدولي على المنطقة، وذلك من خلال قربها من الحدود مع العراق وتركيا؛ ما يعطيها أهمية خاصة في تشكيل التحالفات الإقليمية والدولية.
وتظل للمنطقة أهمية أخرى من نوع خاص خلافًا لحيوتها التاريخية والجغرافية، حيث امتلاكها للثروات الطبيعية الهائلة يعد عاملاً مهماً في جذب التنافس الدولي والإقليمي تجاه المنطقة، حيث تحتوي المنطقة على معظم حقول النفط والغاز السورية، مثل حقل العمر والتنك في دير الزور، فجل الصراعات والتنافسات العالمية اليوم تتحرك من أجل السيطرة على خيرات وثروات ومصادر الطاقة لدول الشرق الأوسط؛ ما يجعلنا نفهم أسباب التواجد الأمريكي في هذه المنطقة من سورية بالتحديد.
ويبقى بعد الأمن الغذائي محوراً ومسعى مهماً لدى كافة دول العالم، فالحروب القادمة ستكون حروباً على الغذاء والماء، فمن هنا تأتي أهمية المنطقة الشرقية لسورية، وكذلك فهم خريطة التنافسات الدولية والإقليمية على هذه المنطقة، حيث تمتلك الأراضي الزراعية الخصبة في الحسكة تجعلها مصدرًا رئيساً لإنتاج القمح والمحاصيل الأخرى، وكذلك محافظة الرقة تمتلك مصادر الطاقة المائية المهمة وأهمها سد الفرات.
وكذلك تمتلك المنطقة الشرقية حالة من الديموغرافية السكانية المتنوعة، حيث تضم المنطقة تنوعًا سكانيًا من العرب والأكراد والسريان وغيرهم، مما يجعلها نموذجًا للتعايش، لكنه أيضًا يخلق تحديات سياسية وإدارية، بحيث تعد هذه الحالة قوة حقيقية وفريدة إذا كان رأس النظام مدرك لمفهوم الدولة وحقوق المواطنة، ففي هذه الحالة تكون هذه الديموغرافية المتنوعة شكلاً من أشكال قوة الدولة، أما إذا كان رأس النظام مستبداً فسيكون هذا التنوع الفزاعة الدائمة للمنطقة الشرقية من أجل إسكات أصواتها، وكذلك إسكات الناس من خلال إخافتهم بقضايا الأقليات وغيرها، وبالتالي تقوم السلطة بإسكات أصوات الشعب من خلال وضعهم في خيارين هما: الأمن أو الحرية، بمعنى إذا أردت أمنك فلا حرية لك، وإذا أردت حريتك فلا أمن لك، وكذلك يكون هذا التنوع أداة لإسكات أصوات المنطقة الشرقية التي تمتلك أكبر كتلة سكانية في سورية، فإذا اتفقت هذه الكتلة سياسيًا ستكون خطر على الحاكم المستبد وتهديد له في سلطته، أم إذا ظلت متناحرة فستكون حالة إيجابية للحاكم المستبد وكذلك الاستغلال الدولي والإقليمي للتدخل في القرار السياسي لسورية، أم في حالة الوطنية ستكون نقطة إيجابية ونموذج للتعايش السلمي بين الشعوب، والذي دعا إليها الإسلام، حيث لم يكن لدى الحضارة الإسلامية مفهوم دولة الأقليات إنما كانت دولة المواطنة، فلذلك نقول: إن المذاهب والأقليات في سورية كالفسيفساء الجميلة ولكنها قاتلة، ويتركز هذا التنوع في المنطقة الشرقية، فإما تكون نعمة أو نقمة، ويتوقف ذلك على شكل الدولة وعقلية الحاكم إما عادل أو مستبد.
وإذا رفعنا واقع المنطقة الشرقية الآن نجد أن هناك عدة تحديات راهنة وتتمثل في: الصراعات المحلية والدولية، حيث تشهد المنطقة صراعًا بين قوات سورية الديمقراطية (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة، والحكومة السورية الجديدة التي أتت بعد ثورة التحرير، مما يعقد الوضع السياسي والعسكري، وكذلك المصالح التركية المتعلقة بأمنها القومي، الذي يساهم التدخل العسكري التركي الهادف إلى مواجهة النفوذ الكردي في تصعيد التوترات وزيادة تعقيد المشهد، وهناك تحدٍّ غائب عن الجميع وما زال قائماً، فعلى الرغم من هزيمة تنظيم «داعش» عسكريًا، فإنه خلاياه النائمة ما تزال تمثل تهديدًا مستمرًا للاستقرار في المنطقة، وأيضًا التباطؤ في ترسيخ الأمن في المنطقة يؤدي إلى عدم عودة السكان المهجرين إلى مناطقهم ويُبطئ جهود إعادة الإعمار، وهناك أيضًا العقوبات الدولية التي تؤثر بشكل كبير على قدرة المنطقة على استغلال مواردها الطبيعية، مما يفاقم الأزمة الاقتصادية، وكذلك مشكلة نقص المياه وغياب الدعم الحكومي إلى تفاقم معاناة السكان وتدهور الزراعة، حيث تعد الزراعة مصدر رزق رئيسيًا.
وعندما نتحدث عن المنطقة الشرقية ومستقبل سورية الجديدة التي نطمحُه جميعًا، نجد أننا علينا أن نضع أمام الإدارة الحاكمة أهمية هذه المنطقة لسورية واقتصادها وأمنها المستقبلي، حيث تؤدي دوراً إستراتيجياً في إعادة الإعمار، لما تتمتع به المنطقة بموارد طبيعية وبنية تحتية تجعلها ركيزة أساسية في عملية إعادة إعمار سورية، فلذا ينبغي استثمار هذه الموارد بشكل عادل يضمن تحقيق تنمية مستدامة تسهم في تحسين حياة السكان، وكذلك يجب إشراك السكان المحليين؛ حيث يُعد إشراك السكان المحليين في إدارة شؤون المنطقة خطوة محورية لتحقيق الاستقرار وتعزيز الثقة، ويجب كذلك تعزيز دور العشائر والمجتمعات المحلية في صنع القرار؛ لأن ذلك يؤدي دورًا مهمًا في خلق بيئة سياسية واجتماعية متوازنة، ويكون ذلك بداية من عمل مصالحة وطنية شاملة تشمل كافة الأطراف في إطار إداري جديد يضمن تمثيلًا عادلًا للجميع، بعد حل كافة النزاعات بين القوى المحلية والدولة المركزية، وبدون هذه الخطوات لا يمكن تحقيق استقرار دائم في المنطقة المتنوعة في العرق والمذهب.
يمكننا وضع رؤية مستقبلية للمنطقة الشرقية، وأولى هذه الخطوات لصنع مستقبل جاد لسورية والمنطقة الشرقية جعلها مركزاً اقتصادياً جديداً، ومنطقة رابط اقتصادي إقليمي، لأنها تمتلك الإمكانية لتصبح مركزًا اقتصاديًا يربط سورية بالدول المجاورة، خاصة العراق وتركيا، وكذلك تكون محور نمو اقتصادي، ويمكن ذلك من خلال تنشيط حالة لاستثمار في قطاعات الزراعة، والنفط، والبنية التحتية، مما يحول المنطقة إلى محور للنمو الاقتصادي في سورية، حيث في عالم اليوم الاقتصاد هو المحرك الأول نحو الاستقرار السياسي، ويمكن أيضًا للمنطقة أن تؤدي دورًا مهمًا في تعزيز التعاون الإقليمي عبر مشاريع مشتركة مع الدول المجاورة، مثل خطوط الطاقة والتجارة، وكذلك تعزيز التكامل الإقليمي، وذلك لدور الموقع الذي هو حلقة وصل بين دول المنطقة في تعزيز الاستقرار والتنمية الإقليمية.
تحتضن المنطقة الشرقية في سورية تراثاً عريقاً وآمالاً مستقبلية، ورغم الظروف الصعبة التي تمر بها، فإنها تمثل حجر الزاوية في بناء سورية الجديدة، موقعها الإستراتيجي وثرواتها الطبيعية تجعلها مؤهلة للقيام بهذا الدور المحوري، بشرط توفر رؤية وطنية شاملة وتعاون دولي فعال، ولذلك لا يجب التنازل أو التفاوض أو ترك المنطقة الشرقية بدون تحرير وعودتها كاملة غير منقوصة لحضن الوطن، فهي أرض سورية ليست قابلة للبيع أو التنازل أو حكم ذاتي.
_________________________
(*) باحث في التاريخ السياسي، جامعة ماردين آرتوكلو.