1- الصِّدِّيق مظلوماً:
في اعتقادي أن أمتنا لم تحتفِ بأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وتعدد مناقبه وتجلوها بما هي أهل له، ويبدو أن وضوح قضية العدل وقوة الشكيمة لدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد غطى كثيراً على الروحانية الإيمانية الهائلة للصديق وعلى قوة شخصيته، ونذكّر هنا ببعض مواقف الصديق ومآثره:
– موقفه عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حينما فقد المسلمون صوابهم، بل إن الفاروق أشهر سيفه وهدد بقتل من يقول بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حينها وقف الصديق ليحفظ للمسلمين توازنهم قائلاً: من كان يعبد محمداً فإن محمداً مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، رغم حبه الشديد لنبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم.
– ولا يفوتنا هنا موقفه حينما أخرج ماله كله لتجهيز جيش المسلمين، وعندما سأله النبي صلى الله عليه وسلم فيما معناه: «ماذا تركت لأهلك؟»، أجاب قائلاً: تركت لهم الله ورسوله.
– كما أن الصِّدّيق كان حازماً في القضايا التي تتطلب الحزم، ونذكّر هنا بموقفه الصارم من حروب الردة التي حفظت للأمة تماسكها وسمحت ببقائها قوية عزيزة، بل إنه احتدّ بشدة على عمر الذي كان يرى عدم الدخول في حروب مع المرتدين، موجهاً إليه كلمات غاضبة حازمة: أجبّار في الجاهلية خوّار في الإسلام؟!
يكفي الصدِّيق أن قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم ما معناه: «أن إيمان أبي بكر يفوق إيمان الأمة كلها»، كما قال أيضاً ما معناه: «كل من كان له فضل في أمة المسلمين كافأناه إلا أبا بكر لم نستطع مكافأته فتركناه لله يكافئه».
2- علوم الدين كلأ مستباح:
عندما تحاول أن تنهى أحدَهم عن الحكم والإفتاء في الدين دون علم حقيقي يؤهله لهذا، يجيبك بأن الدين للجميع وأنه ليس مقصوراً على المتخصصين مثل باقي العلوم كالفيزياء والكمياء.. إلخ!
ولهؤلاء نقول: نعم الدين للجميع، بمعنى أن الجميع يتعبد ويقيم فرائض الدين وسُننه من صلاة وصيام وصدقات.. أو هكذا يُفترض.
أما معرفة المراد من كلام الله ورسوله، واستنباط الأحكام منهما وكيفية إسقاطها على الواقع فهي علوم، ولكل علم أصوله ومناهجه ومدارسه وأعلامه، شأنها في هذا شأن جميع التخصصات العلمية التي سبقت الإشارة إلى بعضها.
وكونك تعرف العبادات الأساسية وكيفية أدائها، وبعض أحكام الحلال والحرام، مما سمعتَه أو قرأتَه لبعض العلماء، لا يجيز لك أبداً أن تقرر أحكاماً أو أن تفتي غيرك أو حتى نفسك.
ولتقريب الفكرة: بعضنا، وربما معظمنا لديه معلومات طبية بسيطة سمع بعضها أو قرأها من باب الثقافة الطبية العامة البسيطة جداً، وعرف بعضها بتجربة المرض ومما شخّصه له الأطباء وقرروه له في مرضه، فهل يؤهله هذا للعمل كطبيب يفحص ويشخّص ويصف العلاجات؟!
إن القول بجواز الإفتاء في الدين لجميع المسلمين، لأنهم فقط يتعبدون ويعرفون بعض الأحكام الأساسية البسيطة، يتطابق في هزليته وتهافته وضلاله مع من يجيز لعموم الناس القيام بدور الطبيب المتخصص، فقط لأن معظم الناس أو جميعهم يمرضون ويتداوون على أيدي الأطباء، وبالتالي يعرفون قدراً يسيراً جداً من قشور الثقافة الطبية!
الفرق كبير بين الدين كمجال يُمارَس في إطاره التعبد للمولى سبحانه؛ صلاةً وصيامًا.. والعلوم التي نشأت حول الدين وانبثقت منه لخدمته؛ تفسيراً، وتوضيحاً للاعتقاد الصحيح، وتحديداً لطرق الاستدلال، واستنباطاً للأحكام وتعيين مناطاتها ومن ثم إنزالها على الواقع المعيش.
فذاك مجال مناطه الأداء؛ عبادةً، وتعاملاً، عملاً وقولاً، على أساس اعتقادي راسخ، بينما هذه علوم تخدمه من كل جانب، ولكل منها أصوله ومناهجه ومدارسه ونتاجه العلمي المحقق الموثق المتراكم، ومجرد القيام بالأول؛ أي التعبد، لا يجيز للمسلم الخوض في الثاني؛ أي علوم الدين والإفتاء في إطارها، دون الأخذ بأسبابه.
3- مقارنات سلبية:
لا تقارن نفسك وأوضاعك ونجاحاتك وإخفاقاتك بأحد، فلكل إنسان طاقة ونشأة وتركيبة ودور، وقدَر.
فقط اقترب من الله تعالى، واسعَ في الدنيا قدر استطاعتك، وراقب نفسك وراجعها دائماً، ثم ارضَ بعد هذا بما يكون، وإلا شقيت وشقي من حولك بك دون أن يغير هذا من أمرك شيئاً.
4- ثنائيات عجيبة:
– لماذا لا تصلي؟
– أنا قلبي أبيض، ما الذي سيعود عليّ إن صليت وأقمت الليل مع اسوداد القلب؟
– لماذا لا تتحجبين؟
– أنا على خُلُق وأخاف الله، ماذا سأجني من الحجاب إذا التزمت به وانتهكت حرمات الله؟
– أيّهما أقرب إلى نفسك؛ مسلم فاسد الخُلُق، أم كافر يتمتع بالقيم الإنسانية الرفيعة؟
– الثاني طبعاً.
– ما قولك في اللحية والملتحين؟
– المهم هو كيفية تعامل المسلم مع غيره، أما اللحية فمسألة شكلية لا تقدم ولا تؤخر.
سبحان الله! هل هناك مانع شرعي أو عقلي أو حتى نفسي يحول بين الالتزام بالصلاة مع نقاء القلب؟
هل من المستحيل الالتزام بالحجاب واللحية مع الحفاظ على السلوك القويم؟
5- اقهر نفسك:
إذا ابتغيت رضا الله فلا مناص من أن تغلب نفسك وتقهر هواك، ولنتأمل معنى العطاء أو الإنفاق، مثلاً، فليس العطاء كله على درجة واحدة، كما يعتقد البعض؛ بمعنى أنك إذا تصدّقتَ بالمال ولم يكن للمال أهمية كبيرة في نفسك، وِفق طبيعتك وتكوينك، فلن يكون ثوابك هو الأكبر، كما أن ثواب التصدّق بالمال، بغض النظر هنا عن طبيعة صاحبه وميول نفسه، حال قِلّة ذات يد المُنفق واحتياجه أعظم أجراً.
وعلى هذا المنوال يكون القياس، يقول الله تعالى: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران: 92)، ويقول جلّ في علاه: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9).
6- ماذا يعني إحسان الظن بالله؟
إحسان الظن بالله لا يعني أن تتوقع أنه سبحانه سيحقق لك كل ما تريده وتدعو به، فهذا الفهم خطير للغاية، ومن شأنه أن يُحدث تشويشاً في علاقة العبد بربه جلّ في علاه.
إذ إن المسلم قد يرجو ما لا خير له فيه، كما أن لله حكمة في كل تدبير، فأحياناً يكون منعه هو عين عطائه، وأحياناً تولد المنحة من رحم المحنة، كما أن الابتلاءات والشدائد تكفّر عن المسلم ذنوبه وخطاياه وترفع درجته عند مولاه، إذا رضي بها وصبر عليها، وحتى عقاب الله تعالى لعبده في الدنيا على ما اقترفه من آثام ينطوي على خير، لأنه ينجيه من عقاب الآخرة، وهو أشدّ وأنكى.
إحسان الظن هو اليقين بأن أقدار الله كلها خير حتى وإن كانت ابتلاء أو شدة ونحوهما.
والله أعلم.