شاء الله تعالى أن تكون حياة المسلم من بدايتها لنهايتها له وحده سبحانه وتعالى، ولعل هذا هو بعض سر قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ) (الذاريات)، وقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام).
من هذا المنطلق فرض الله تعالى علينا العبادات التي تستغرق اليوم والليلة، وكذلك سنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم السُّنن التي تجعل المسلم في معية الله تعالى طول يومه وليلته.
وعندما يُقصر المسلم في عمل اليوم والليلة ويهمله، يقع في عائق يوقعه في حبائل الشيطان ويسهل عليه التغرير به.
وعمل اليوم والليلة الذي نعنيه هو الوظائف العبادية التي ينبغي للمسلم الحفاظ عليها في يومه وليلته، كالصلاة المكتوبة، وكذلك النوافل الراتبة كقيام الليل أو صلاة الوتر أو صلاة الضحى، والورد القرآني، والمأثورات صباحاً ومساءً، إلى غير ذلك من الطاعات والعبادات.
العواقب
لإهمال عمل اليوم والليلة آثار وعواقب مهلكة على الفرد والعمل الإسلامي، فعلى مستوى الفرد ينتج عنه:
– عدم الطمأنينة والقلق النفسي: ذلك أن غذاء القلب وراحة النفس إنما تكون في المواظبة على عمل اليوم والليلة، وكل من يهمل هذا إنما يقطع عن قلبه غذاءه ودواءه ومصدر سعادته وطمأنينته، ولعل هذا هو سر قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ) (طه: 124).
– التكاسل وإهمال الواجبات: وهذا ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان» (صحيح البخاري).
– الجرأة على المعاصي: وذلك أن الطاعة هي الحاجز بين المسلم وارتكاب المعاصي، فإذا أهمل المسلم عمل اليوم والليلة أصبحت المعصية عنده سهلة، ولعل هذا هو سر قوله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت: 45).
– الحرمان من عون الله تعالى وتوفيقه: وذلك أن عون الله وتوفيقه لا يَفُز بهما إلا من كان في معية الله تعالى بالمواظبة على عمل اليوم والليلة، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (النحل: 128)، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69).
أما على مستوى العمل الإسلامي فينتج عنه:
– إطالة الطريق على القائمين به: وذلك لأن الله تعالى ترك أصحاب هذا العمل لأنفسهم فطال عليهم الطريق وأحاطت بهم المحن والشدائد من كل ناحية، ولعل هذا هو سر قوله تعالى على لسان صالح عليه السلام: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ۖ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) (هود: 63).
– انصراف الناس عنه: وذلك أن الناس لا يتأثرون ولا يقتدون إلا بمن يرون أثر الدعوة التي يدعو إليها في حياته، ولعل هذا هو بعض سر قوله تعالى على لسان شعيب عليه السلام: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) (هود: 88).
الأسباب
للوقوع في عائق إهمال عمل اليوم والليلة أسباب كثيرة، نذكر منها:
– التهاون في ارتكاب الذنوب: بأن يكون المسلم غير محترس من الذنوب لا سيما الصغائر التي يستهين بها كثير من الناس، وعندئذ يكون العقاب الذي يتمثل في عدم التوفيق لعمل اليوم والليلة، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى: 30).
وقد وعى السلف الصالح هذا الأمر وعلموا أن الوقوع في المعاصي يجلب عدم التوفيق للطاعة، فهذا الإمام الضحاك يقول: ما نعلم أحدًا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب ثم قرأ (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى: 30)، ثم يقول: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن(1)؟
وقال الإمام الثوري: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته، قيل وما ذاك الذنب؟ قال: رأيت رجلًا يبكي، فقلت في نفسي: هذا مراء، وقال بعضهم: دخلت على كرز بن وبرة وهو يبكي فقلت: أتاك نعي بعض أهلك؟ فقال أشد، فقلت: وجع يؤلمك؟ قال: أشد، قلت: فما ذاك؟ قال: بابي مغلق، وستري مسبل، ولم أقرأ حزبي البارحة، وما ذاك إلا بذنب أحدثته وهذا لأن الخير يدعو إلى الخير، والشر يدعو إلى الشر، والقليل من كل واحد منهما يجر إلى الكثير(2).
– التوسع في تعاطي المباحات: وذلك أن الشيطان عندما ييأس من إيقاع المسلم في المعصية يغريه بالتوسع في المباحات من الطعام والشراب واللباس والمركب، حيث إن هذا التوسع يورث الركون والنوم والراحة الأمر الذي ينتج عنه إهمال عمل اليوم والليلة، وحسبنا هنا قول الإمام الغزالي رحمه الله: «لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً فترقدوا كثيراً فتتحسروا عند الموت كثيراً(3).
– الجهل بأجر عمل اليوم والليلة، والاعتقاد بعدم الحاجة إليه: لا شك أن المسلم عندما يدرك عظم أجر العمل فلا يتوانى في إتيانه، وعندما يجهل هذا الأجر يهمل هذا العمل، وكذلك أن البعض يعتقد أنه ليس في حاجة إلى عمل اليوم والليلة ما دام قد أدى ما عليه من فرائض!
وقد نسي هؤلاء قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ {1} قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً {2} نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً {3} أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً {4} إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً {5} إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً {6} إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً) (المزمل).
– كثرة الأعباء وتسويف أداء الواجبات: قد تؤدي كثرة الأعباء والواجبات إلى إهمال عمل اليوم والليلة، وذلك أن الإنسان في زحمة العمل، ينسى واجبه نحو ربه تعالى بحجة ضيق الوقت وضرورة الفراغ من هذه الأعباء وتلك الواجبات، لا سيما إذا صاحب كثرة الأعباء التسويف الذي يؤدي إلى تراكم الواجبات، ومن ثَم إهمالها.
وقد وعى ذلك السلف الصالح رضوان الله عليهم فحرصوا على اقتناص الفرص واغتنام العمر قبل أن يضيع، وحسبنا هنا وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «إن القوة في العمل ألا تؤخر عمل اليوم لغد، فإنكم إذا فعلتم ذلك تداركت عليكم الأعمال فلم تدروا بأيها تأخذون فأضعتم»(4).
العلاج
على كل من أراد أن ينجو بنفسه من هذا العائق أن يلزمها بالوسائل التالية:
1- معايشة الكتاب والسُّنَّة ففيهما صورة صادقة لثواب الطائعين، وعقاب العاصين، وفيهما تحريض على ملازمة الطاعة وترك المعصية.
2- التحرر من المعاصي والسيئات لا سيما الصغائر فإنها سم قاتل، ونار محرقة وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه»، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً «كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجئ بالعود حتى جمعوا سواداً فأججوا ناراً وأنضجوا ما قذفوا فيها» (أخرجه الطبراني).
3- التوسط في تعاطى المباحات لا سيما المطاعم والمشارب، فإنها أساس كل بلية وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه» (أخرجه الترمذي).
4- مجاهدة النفس وأخذها بالحزم، مع اتهامها بالتقصير وترك التسويف، ومع تمنيتها بأنها إن تعبت اليوم، ستتمتع غداً بالنعيم المقيم، وتتلذذ بالنظر إلى وجه الله الكريم.
5- ملازمة الجماعة، والعيش في وسط صالح مستقيم، فإن ذلك يذكر بالله ويشحذ العزائم والهمم(5).
______________________________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، تفسير سورة «الشورى»، الآية (30).
(2) إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، مرتضى الزبيدي، محمد بن محمد الحسيني الزبيدي (5/ 192).
(3) كتاب روضة العابدين، عبدالله بن عبده العواضي (1/ 220).
(4) الخطب والمواعظ، أبو عبيد القاسم بن سلام (1/ 135).
(5) آفات على الطريق، أ.د. السيد محمد نوح (1/ 318)، بتصرف.