كان لدى أهل الكتاب عناية برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مولده، وليس هذا بغريب عنهم فهم أتباع أنبياء سابقين، وفي كتبهم الدينية رغم تحريفها بقايا تدل على معرفة نبي آخر الزمان، ومن ثم فقد اعتنوا بزمن قدومه، والحيلولة دون إيذائه، وقد تمثلت العناية من أهل الكتاب برسول الله صلى الله عليه وسلم من مولده إلى بعثته في عدة أمور، منها:
أولاً: علاج النبي من المرض:
تعرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم لمرض في صغره عالجه أحد الرهبان، ففي السنة السابعة من ميلاده صلى الله عليه وسلم أصابه رمد شديد، فعولج بمكة فلم يغن العلاج عنه شيئاً، فقيل لعبدالمطلب: إن في ناحية عكاظ راهباً يعالج الأعين، فركب إليه فناداه وديره مغلق فلم يجبه، فتزلزل ديره حتى كاد أن يسقط عليه فخرج مبادراً، فقال: يا عبدالمطلب، إن هذا الغلام نبي هذه الأمة، ولو لم أخرج إليك لخرّ على ديري، ثم عالجه وأعطاه ما يعالج به(1)، فكان علاج الراهب مظهراً من مظاهر عناية أهل الكتاب به صلى الله عليه وسلم، والكشف عن كونه آخر الأنبياء.
ثانياً: المحافظة على النبي خشية الموت:
كان بعض أهل الكتاب على دراية كاملة بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان بعضهم على وعي بما قد يتعرض له من أذى أو ضرر، فعندما خرج صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في رحلة التجارة مرّوا على بحيرا، وكان بحيرا قد أعدّ لهم طعاماً دعاهم جميعاً إليه، غير أنه لم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحاضرين، فسأل عنه، حتى جاء إليه وعرفه، وتبينت له نبوته، فحذّر عمه من السير به إلى أرض يهود؛ خشية قتله حيث قال: فو الله لَئِنْ رَأَوْهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا عَرَفْتُ لَيَبْغُنَّهُ شَرًّا، فَإِنَّهُ كَائِنٌ لَابْنِ أَخِيكَ هَذَا شَأْنٌ عَظِيمٌ، فَأَسْرِعْ بِهِ إلَى بِلَادِهِ(2)، فتوجيه بحيرا لأبي طالب بالعودة إلى بلده بابن أخيه، دليل على العناية بنبي آخر الزمان، والمحافظة عليه.
ثالثاً: انتظار بعثة النبي للانتصار به:
اليهود أهل كتاب، وكانت النبوة فيهم، وكانوا على دراية بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا ينتظرون مجيئه وإرساله، ليجدوا في بعثته نصرة ومساندة لهم ضد غيرهم، فقد كَانَتْ يَهُودُ خَيْبَرَ تُقَاتِلُ غَطَفَانَ، فَكُلَّمَا الْتَقَوْا هُزِمَتْ يَهُودُ خَيْبَرَ، فَعَاذَتِ الْيَهُودُ بِهَذَا الدُّعَاءِ وَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِحَقِّ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي وَعَدْتَنَا أَنْ تُخْرِجَهُ لَنَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ إِلَّا نَصَرْتَنَا عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَكَانُوا إِذَا الْتَقَوْا دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاءِ، فَهَزَمُوا غَطَفَانَ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَفَرُوا بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) (البقرة: 107)؛ أَيْ بِكَ يَا مُحَمَّدُ، إِلَى قَوْلِهِ: (فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ).
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَمُرُّ بِيَهُودَ فَيَلْقَوْنَ مِنْهُمْ أَذًى، وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَجِدُ نَعْتَ مُحَمَّدٍ فِي التَّوْرَاةِ، وَيَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَهُ فَيُقَاتِلُونَ مَعَهُ الْعَرَبَ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم كَفَرُوا بِهِ حَسَدًا، وَقَالُوا: إِنَّمَا كَانَتِ الرُّسُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَا بَالُ هَذَا مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ(3)، فاليهود كانوا ينتظرون بعثة خاتم الأنبياء ليعتمدوا على خوارق العادات، من أجل أن يهزموا أعداءهم من العرب، إلا أنهم رفضوا الإيمان به لكونه ليس منهم.
رابعاً: الكشف عن قرب بعثة النبي:
كان اليهود لشدة عنايتهم بالرسول الخاتم يعلمون تفاصيل أمور كثيرة عنه، كأوصافه وعلامات نبوته ووقت بعثه ومكان هجرته، فقد قال رجل من بني قريظة: إِنَّ رَجُلًا مِنْ يَهُودَ أَهْلِ الشَّامِ، يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْهَيْبَانِ، قَدِمَ عَلَيْنَا قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ بِسِنِينَ، فَحَلَّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، قَالَ: ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ عِنْدَنَا، فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ مَيِّتٌ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أتَرَوْنَ مَا أَخْرَجَنِي مِنْ أَرْضِ الْخَمْرِ وَالْخَمِيرِ إلَى أَرْضِ الْبُؤْسِ وَالْجُوعِ؟ قَالَ: قُلْنَا: إنَّكَ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنِّي قَدِمْتُ هَذِهِ الْبَلْدَةَ أنتظر خُرُوجَ نَبِيٍّ قَدْ قرب زَمَانُهُ، وَهَذِهِ الْبَلْدَةُ مُهَاجَرُهُ، فَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يُبْعَثَ فَأَتَّبِعَهُ، وَقَدْ أَظَلَّكُمْ زَمَانُهُ، فَلَا تُسْبَقُنَّ إلَيْهِ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ(4)، فانتقال ابن الهيبان وحث أتباعه على اتباع خاتم الأنبياء وتحديد قرب زمانه وبيان مكان هجرته، دليل على كمال عناية أهل الكتاب به صلى الله عليه وسلم قبل بعثته.
خامساً: الإيمان به قبل بعثته:
عن عكرمة أن ناساً من أهل الكتاب آمنوا برسلهم، وصدقوهم، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، فلما بُعث كفروا به، فذلك قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) (آل عمران: 106)، وكان قوم من أهل الكتاب آمنوا برسلهم وبمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، فلما بعث محمد آمنوا به فذلك قوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (محمد:17)(5).
ومن ذلك ما جاء عن سيف بن ذي يزن النصراني الذي تولى سلطان الحبشة بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعامين وقد ذهب وفد من العرب لتهنئته وكان من بينهم عبدالمطلب، فتحدث عبدالمطلب لتهنئته، فلما انتهى سأله سيف بن ذي يزن عن نفسه وقبيلته، وبعد أن انتهى المجلس أرسل سيف بن ذي يزن إلى عبدالمطلب وأدناه وأسرّ إليه صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه ثم قال له: إن كان الذي قلت كما قلت، فاحتفظ من ابنك واحذر عليه اليهود، فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً، واطْو ما ذكرته لك عن هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تتداخلهم النّفاسة من أن تكون لهم الرياسة، فينصبون له الحبائل ويبغون له الغوائل، وهم فاعلون ذلك أو أبناؤهم غير شك، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار ملكه، فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن بيثرب استحكام أمره وأهل نصرته وموضع قبره، ولولا إني أقيه من الآفات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنّه أمره ولأوطأت على أسنان العرب كعبه(6).
سادساً: بيان وقت بعثه:
غلب الاهتمام البالغ على أهل الكتاب برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى علموا وقت بعثته، فهذا زيد بن عمرو قد أجمع على الخروج من مكة يضرب في الأرض، يطلب الحنيفية دين إبراهيم، فخرج إلى الشام يلتمس في أهل الكتاب دين إبراهيم، ويسأل عنه، فلم يزل في ذلك حتى أتى الموصل، أو الجزيرة كلها، ثم أقبل حتى أتى الشام، فجال فيها حتى أتى راهباً ببيعته من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية، فيما يزعمون، فسأله عن الحنيفية، فقال الراهب: إنك تسأل عن دين ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، لقد درس علمه، وذهب مَن يعرفه، ولكنه قد أظلك خروج نبي يبعث بأرضك التي خرجت منها بدين إبراهيم، فعليك ببلادك فإنه مبعوث الآن، هذا زمانه(7).
_________________________
(1) الوفا بأحوال المصطفى: اابن الجوزي (1/ 101).
(2) السيرة النبوية: ابن هشام (1/ 182).
(3) أسباب النزول: الواحدي، ص 30.
(4) هداية الحيارى: ابن القيم، ص 31.
(5) سيرة ابن إسحاق (2/ 86).
(6) الخصائص الكبرى: السيوطي (1/ 140).
(7) سيرة ابن إسحاق (2/ 119).