توالت تهديدات المسؤولين الصهاينة لحركة «أنصار الله» الحوثية خلال الأسابيع القليلة الماضية لتشمل الحديث عن ردود انتقامية واسعة، وتحالفات إقليمية ودولية لتدمير قدرات الحركة وصولاً للإطاحة بحكمها وسيطرتها على صنعاء وميناء الحديدة، فهل يفلح الاحتلال وحلفاؤه الغربيون في تكرار سيناريو «حزب الله» في لبنان بإخراج الحوثيين من معركة الإسناد، أم أنهم يراهنون على تكرار سيناريو سقوط نظام الأسد وخروج إيران من سورية؟
الهجمات الجوية «الإسرائيلية» والتهديدات باستئصال الحوثيين من اليمن حافزها النجاح المتخيل للاحتلال «الإسرائيلي» في إخراج «حزب الله» اللبناني والفصائل العراقية من جبهة إسناد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، غير أنها من ناحية أخرى نتاج للعجز الصهيوني عن وقف هجمات الحوثيين على الكيان «الإسرائيلي»، وفشل الولايات المتحدة وبريطانيا في تشكيل تحالف صلب ومستدام لوقف هجمات «أنصار الله» الحوثية، فتحالف «حارس الازدهار» الذي ضم 30 دولة لحظة تأسيسه تقلص إلى دولتين، هما أمريكا وبريطانيا، ليتحول بعد ذلك إلى عملية عسكرية محدودة الشرعية والتأثير أطلق عليها مسمى «بوسيدن» تعمل إلى جانب عملية «أتلانتا» التي أطلقها الاتحاد الأوروبي في عام 2009م لمكافحة القرصنة قبالة سواحل الصومال ومياهه الإقليمية دون غيرها.
حركة «أنصار الله» وبعد أن أخرجت ميناء أم الرشراش (إيلات) من الخدمة، وخلافاً للمتوقع «إسرائيلياً» وأمريكياً، طورت قدراتها العسكرية والتقنية وصعّدت هجماتها وعملياتها في مرحلة خامسة من عمليات الإسناد، أطلقتها في 15 سبتمبر 2024م، بإدخالها صواريخ فرط صوتية للخدمة، مستهدفة مدينة يافا (تل أبيب) ومنشآت حيوية على رأسها مطار بن غوريون ومحطات طاقة، وهي عمليات كُثفت خلال الأسابيع الأخيرة من العام 2024م المنقضي.
العجز الصهيوني وإستراتيجية التصعيد الحوثية
كما أن العجز عن تحقيق الأهداف العسكرية والسياسية بتشكيل التحالفات واحتواء وترويض الحوثيين، قابله تصعيد كبير للحركة دفع الاحتلال للبحث عن حلول تدمج بين تحالف يضم أمريكا وقوى إقليمية وأخرى عربية بوحي من التطورات في سورية وجنوب لبنان، وهي إستراتيجية لا تقدم إضافة نوعية لإحداث تحول في المعركة على اليمن بسبب تواصل عوامل العجز والقصور السياسي والجيوستراتيجي لدى الحلفاء والشركاء المتوقعين وعلى رأسهم أمريكا وأوروبا، مقابل تطور متواصل لأدوات الحوثيين العسكرية.
القدرة العسكرية للحوثيين تتسم بديناميكية تصعيدية مدفوعة بدعمهم للشعب الفلسطيني في نضاله ضد الاحتلال
العجز «الإسرائيلي» أمام ضربات الحوثيين ونشوة الانتصار المصطنعة في لبنان وسورية محركات متناقضة لإستراتيجية الاحتلال «الإسرائيلي» وتهديداته المعلنة في اليمن، كونها رسمت سيناريوهات المستقبل لحركة «أنصار الله» في اليمن ولمحور المقاومة على نحو مكرر لما قامت به أمريكا وبريطانيا على مدى عام كامل دون جدوى تذكر في البحر الأحمر وجبال صعدة الوعرة لوقف هجمات الحوثيين على سفن الشحن وعلى الكيان الصهيوني ذاته.
القصور الذاتي والإستراتيجي والأخلاقي للكيان «الإسرائيلي» في التعامل مع اليمن، قابله خارطة طريق واضحة للحوثيين قوامها التصعيد الذي استمد قوة دفعه وديناميكيته العسكرية النشطة والمتطورة من مشروعية دعمه للشعب الفلسطيني في قطاع غزة الذي يتعرض لجرائم إبادة جماعية من الاحتلال، وهي جرائم اقترنت بمواقف دولية وإدانات واضحة في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والجنائية الدولية لقادة الاحتلال وكيانه السياسي.
ديناميكية يمنية تفاعلت إيجاباً مع موقع جغرافي يحظى بميزات جيوسياسية وإستراتيجية، يشغل فيها اليمن ما مساحته 550 ألف كيلومتر مربع، مشرفاً على مسطح مائي يزيد على 5 ملايين كيلومتر مربع، متوزعاً بين بحر العرب والبحر الأحمر، ملامساً بذلك الخليج العربي وبحر عُمان بشريط ساحلي يبلغ طوله 2200 كم.
فاليمن عقدة جغرافية مهمة تقبع في زاوية العالم الحادة، ما يجعل منه مفصلاً جيواقتصادياً وإستراتيجياً للقوى الكبرى والطامحة بما فيها روسيا والصين، بإشرافه على قناة السويس ومضيق باب المندب ومضيق هرمز على الخليج العربي، ليمتد أثره بفعل العمليات العسكرية والقدرات العسكرية الغامضة إلى ما هو أبعد من بحر العرب نحو فضاء المحيط الهندي الأوسع الممتد على مساحة 70 مليون كم مربع، المتصل بدوره بمضيق ملقا بين ماليزيا وإندونيسيا مع بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ، وعبر ممر رأس الرجاء الصالح من ناحية الجنوب الغربي- جنوب أفريقيا- بالمحيط الأطلسي انطلاقاً من الصومال الذي زعمت تقارير أمريكية إلى كونه فاعلاً مؤثراً عبر حركة الشباب الصومالية وفصائل غيرها كحليف خفي للحوثيين أفضت إلى سقوط جنود من المارينز في مياه الصومال في وقت سابق من العام 2024م.
المزاعم الأمريكية و«الإسرائيلية» للربط بين نشاطات جماعات مصنفة إرهابية تمارس القرصنة وعمليات الحوثيين في البحر الأحمر تبرز كمحاولة لرسم سيناريو جديد لبناء تحالف عسكري يضم دول الاتحاد الأوروبي ودول الإقليم من خلال نزع الشرعية عن نشاط الحوثيين، وإقناع الأوروبيين المتحفظين عن المشاركة في تحالف «حارس الازدهار» المعطل للانضمام إلى العمليات العسكرية بتوسعة نشاط عملية «أتلانتا» الأوروبية، وهي محاولة لا يتوقع أن يكتب لها النجاح لغياب الأدلة والبيئة المناسبة المتولدة عن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، فضلاً عن رغبة الدول الأوروبية بتجنب تصعيد يفاقم من أزمة الإقليم ويعرض مصالحها للتهديد المباشر.
فحركة «أنصار الله» اليمنية تتحرك بنشاط لبناء تحالفات وشراكات مع القوى الدولية وقوى دون الدولة في الإقليم دون قيود أو اعتبارات سياسية معقدة، محاكية ما قامت به طهران، وشراكاتها السياسية والأمنية طالت روسيا والصين وكوريا الشمالية، بحسب المزاعم الأمريكية، بشكل سمح لها مفاجأة خصومها بصواريخ فرط صوتية ومضادات للسفن بما فيها البحرية الأمريكية في البحر الأحمر، وشراكات أخرى مع قوى دون الدولة في القارة الأفريقية هددت خصومها في أعالي البحار دون تأكيدات حاسمة.
سيناريو الحرب والمواجهة في جبال اليمن ومياهه الإقليمية مقامرة «إسرائيلية» أمريكية تحتاج لأشهر من الإعداد
اليمن زاوية العالم وساحته الأكثر تأثيرًا وإثارة للقلق، فهو الفيل الذي لم يغب عن حسابات وقف إطلاق النار في قطاع غزة ونقاشات اليوم التالي للحرب وهندسته الإقليمية التي تمتد تداعياته إلى ما هو أبعد من غزة نحو أوكرانيا وتايوان، أمر عززه قصور الاحتلال وحلفائه في البحر الأحمر، في مقابل حاجة شركاء وحلفاء الحوثيين الإقليميين والدوليين لدورها وحضورها العسكري لهندسة ملامح التوافقات الدولية المقبلة الممتدة بين تايوان واليمن.
فواقع اليمن الجيوسياسي والإستراتيجي مكَّن حركة «أنصار الله» الحوثية من امتلاك مراوحة واسعة من الخيارات الإقليمية والدولية للحفاظ على ديناميكيتها واستقلالية قراره السياسي والعسكري كعضو في محور المقاومة وعملية وحدة الساحات، فاتحاً الباب لسيناريوهات معقدة عسكرياً وسياسياً لأمريكا والكيان «الإسرائيلي»؛ ما يجعل من وقف إطلاق النار في قطاع غزة البوابة الوحيدة الممكنة لإطلاق ديناميكية سياسية تسمح باحتواء حراك اليمن الذي بات حراكاً عسكرياً وسياسياً مهدداً للنجاحات الجزئية للاحتلال «الإسرائيلي»، فمحور المقاومة الذي اكتسب مشروعيته من الإجرام الصهيوني في قطاع غزة أصبح أكثر ارتباطاً بأداء «أنصار الله» العسكري، وصمود الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال «الإسرائيلي»، وهي إزاحة مهمة من لبنان إلى اليمن بل ومن طهران نحو صنعاء.
ختاماً، سيناريو الحرب والمواجهة في جبال اليمن ومياهه الإقليمية مقامرة «إسرائيلية» أمريكية تحتاج لأشهر من الإعداد، لمعالجة الغموض الاستخباري ومواجهة السيولة العالية للمشروعية السياسية وللمشهد المتقلب في العراق وسورية وفلسطين المحتلة، الذي تسير بالتوازي معه صعوبة كبيرة في إمكانية التوصل إلى توافقات مستعجلة مع الصين وروسيا في المدى المنظور لما بعد تولي دونالد ترمب الرئاسة في واشنطن، سواء كان ذلك للإطاحة بحركة «أنصار الله» أو سياسة الاحتواء؛ ما يجعل من اليمن رافعة لمحور المقاومة لا يمكن تعطيلها إلا بوقف الحرب في قطاع غزة، أو بإطلاق حملة عسكرية كبرى وطويلة تقضي على إنجازات أمريكا في السنوات الثلاث المنقضية من عمر الحرب في أوكرانيا ومن عمر التصعيد وسياسية الاحتواء الأمريكية للصين في جزيرة تايوان الصينية.