عن دار الأصالة بإسطنبول، صدر مؤخرًا كتاب «أضواء منبرية: خطب جمعة منتقاة في العقيدة والشعائر والقيم والمعاملات والعمران والحقوق» لفضيلة شيخنا العلَّامة د. عصام أحمد البشير، يتضمن خُطَبه التي خطبها طوال مسيرة نصف قرن في العمل الدعوي والخطابي والمنبري، وقد احتوى ما يقرب من 100 خطبة جاءت في مجلدين أكثر من 1150 صفحة، مع مقدمة ضافية؛ فلا غنى لداعية أو خطيب أو مُربٍّ عن هذا الإصدار.
وقد جاءت الخطب التي تضمنها هذان المجلدان مقسمة على سبعة محاور أو أقسام؛ الأول: التزكية والسلوك، والثاني: القيم والمفاهيم، والثالث: الأسرة والمجتمع، والرابع: قضايا الفكر، والخامس: المواسم والمناسبات، والسادس: فلسطين وقضايا الأمة، والسابع والأخير: خطب متنوعة.
ومن أهم ما ورد في هذا الإصدار المهم هو مقدمته الضافية التي قدم بها المؤلف لكتابه هذا، وهي مقدمة ماتعة مفيدة بليغة أخاذة، تحدث فيها عن قصته مع المنبر، والبلاد التي خطب فيها «جغرافيا المنبر»، ومن تأثر بهم من الخطباء، وبيان خصائص الخطبة الناجحة.
مقدمة المقدمة
في بداية مقدمته للكتاب يقول د. عصام البشير: «إن الخطابة رسالةٌ ساميةٌ تحمل في طياتها نور الهداية، وتُعبِّر عن آلام الأمة وآمالها، وتستلهم العِبر من التاريخ، وتستشرف آفاق المستقبل. والخطيب، بما أوتي من بيانٍ وحكمة، يحمل على عاتقه مسؤولية عظيمة، فهو لسان الأمة الناطق، وصوتها الصادق، وسفيرها إلى القلوب والعقول.
لقد كان المنبر عبر التاريخ الإسلامي منارة للحق والعدل، ومصدراً للعلم والمعرفة، وموئلًا لتوجيه الأمة في أوقات الشدة والرخاء، إنه الأداة التي تصل الكلمة من قلوب العلماء إلى أسماع الناس وأفهامهم، فتتجلى فيها معاني الإيمان، ويتحقق من خلالها الإصلاح المجتمعي، وعلى هذا المنبر، وقف الأئمة والعلماء والخطباء، يصدعون بكلمة الحق، ويبثون روح الأمل، وينيرون طريق الناس إلى الله.
أما خطبة الجمعة، فهي تاج الخطابة الإسلامية، وميدانها الأعظم، حيث تجتمع فيها الجموع، وتتوجه الأنظار والأسماع إلى الخطيب الذي يقف داعياً وهادياً ومرشداً للناس، يجدد لهم صلتهم بربهم، ويربطهم بقيم الإسلام ومبادئه، ومن هنا تأتي أهمية إعداد الخطبة بعناية وإتقان، وشمول وتكامل، بحيث تكون جامعةً بين عمق المعنى وجمال المبنى، وبين حكمة الخطاب وروعة البيان.
ولقد أكرمني الله تعالى بأن أعتلي هذا المنبر باكراً منذ مبتدأ مرحلة الطلب، وكنتُ أجد في كل خطبة ألقيها فرصةً جديدةً لأدعو إلى الله، وأخدم أمتي، وأسهم في بناء وعيها وإصلاح شأنها، كانت الخطبة بالنسبة لي وسيلة للتواصل مع الناس، ونافذةً لبث هموم الأمة وآمالها، وميدانًا لتوجيه العقول وتهذيب النفوس.
وبعد نصف قرن كامل من الخطابة في مختلف المنابر التي وفقني الله تعالى لاعتلائها بمختلف البلاد، حاولت جمع ما تناثر من خطبي المسجلة والمخطوطة في سفر واحد يحفظ أكثرها من الضياع، ويكون مساعداً للخطيب المستفيد، سعياً لترشيد الكلمة وتسديد الخطبة.
ومما أحببت البدئ به في هذا الكتاب الجامع للخطب المنبرية إيراد شيء من مسيرتي وقصتي مع المنبر، ثم ذكر خصائص الخطبة الناجحة».
قصة د. البشير مع المنبر
بدأ فضيلته مشواره الخطابي طالباً في المدارس في مرحلة التعليم المتوسط، حيث كان يوجد ما يسمى ببرنامج «الجمعية الأدبية»، وهو نشاط يتعلق بجهود الطلاب أنفسهم، يقدمون شيئًا من محفوظاتهم، نثرًا أو شعرًا، بين يدي زملائهم، مع رعاية الأساتذة الذين يصوبون أداء الطلاب وعبر تصحيح المعاني وتسديدها.
وكان الطالب الذي يحفظ شيئًا يقدمه بين يدي زملائه، فكان د. البشير مغرمًا بكتاب جليل القدر، وهو كتاب أبي عبدالله ابن عبد ربه الأندلسي (246- 328هـ / 860- 940م) المسمى بـ«العقد الفريد»، الذي كان في مكتبة والده، وهو أحد كتب الأدب الأربعة التي هي عمدة في بابها، وكان في تلك المرحلة يحفظ بعض المقطوعات نثرًا أو شعرًا، ثم يعتلي هذا المنبر الطلابي ليقدمها بين يدي أساتذته وزملائه، فيجد تصويبًا في ذلك، فحمله ذلك على الرغبة في الاستزادة من هذا المخزون الأدبي.
ثم زاد شغفه في المرحلة الثانوية بالأدب واللغة، وكان قد تولى رئاسة الاتحاد في هذه المرحلة؛ ما تطلب مزيداً من الاطلاع على الأدب ومدوناته، وقد هيأ الله له بعض الأساتذة عناية به ورعاية له، حتى تخرج في جامعة الإمام في الرياض، وانطلق في العالم الإسلامي محاضرًا وخطيبًا، وعالمًا وداعية، مما تحدث عنه تحت عنوان «جغرافيا المنبر».
جغرافيا المنبر
يحكي فضيلته المساحة الجغرافية التي توزعت جهوده في مشواره الخطابي؛ فيقول: «بعد الانتقال إلى جامعة الإمام، بكلية أصول الدين، قسم السُّنة وعلوم الحديث بالمملكة العربية السعودية، أتاح لي ذلك فرصة لمواصلة الخطابة في المخيمات والرحلات والبرامج الثقافية التي كانت تُنظَّم مصاحبة للدراسة المنهجية».
يقول: «ومما عمق اهتمامي بهذا المجال، أنني زرت بلادًا كثيرة في تلك الفترة العمرية، ففي عام 1978م، تجولت ضمن وفد لجامعة الإمام بقصد الدعوة إلى أسبوع الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فزرت باكستان والتقيت العلَّامة أبا الأعلى المودودي، وزرت الهند والتقيت العلامة أبا الحسن الندوي رحمهم الله تعالى، وزرت تايلاند وماليزيا وإندونيسيا، حيث التقيت بالشيخ محمد ناصر، مؤسس حزب «ماشومي» الإسلامي في إندونيسيا، وكانت هذه الرحلات زاداً ثقافياً انعكس في تطوير خطابي المنبري.
ومن الأشياء التي ساعدتني أيضًا في مسيرتي -إضافة إلى الدراسة الشرعية- المواصلة والاهتمام بالتحصيل الثقافي، فوقفت عام 1972م على مسرحية الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله تعالى «عالم وطاغية»، و«يوسف أيها الصديق»، ومثلتها في برامج السمر، وجعلتني أيضًا أستشهد بها في مناسبات مختلفة، ومن خلال مسيرتي الدعوية وتجوالي بين البلدان زرت ما لا يقل عن سبعين دولة، اعتليت فيها المنابر، فكنت حريصاً على أن أكون خطيباً في كل محل أنزل فيه، ثم كنت خطيباً في مسجد العمارات 41 بالخرطوم بين عامي 1992 و1996م، ثم بعد إنشاء «مجمع النور» في كافوري بالسودان، كانت لي معه أطول تجربة منبرية، دامت لعشر سنوات، وكان هذا المسجد يؤمُّه -إضافة إلى الإخوة السودانيين- الإخوة من الجاليات العربية التي تدرس وتقيم في الخرطوم».
خطباء تأثر بهم
تأثر د. البشير في مسيرته الخطابية بأعلام من خطباء عصرنا، يقول تحت عنوان «خطباء تأثرت بهم»: «من أعلام الخطباء الذين تأثرت بهم في مسيرتي فضيلة الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله تعالى، وكان خطابه مفعماً بالحيوية والحرارة، وعمق المعنى، وقوة العاطفة، وجودة العبارة، وكان أديبًا من الطراز الأول، يكاد يحفظ ديوان الحماسة لأبي تمام.
وممن تأثرت بهم أيضًا شيخنا العلَّامة الشيخ يوسف القرضاوي، رحمه الله تعالى، فهو بالنسبة لي، بمقام والدي ومعلمي وأستاذي الأكبر من المعاصرين، فكان مدرسة موسوعية في علومه واتساع معارفه، وكان خطيبًا مصقعًا، وشاعرًا مفلقًا، وكاتبًا ذا أثر ملحوظ في الأجيال، ويأخذ بلباب الإنسان جميعًا بعقله وروحه ووجدانه، وخطبه أيضًا كانت فيها عنصر المواكبة، والعمق والحيوية والحرارة، فتأثرت به، وأكاد أحفظ كثيرًا من مقطوعاته وحكمه وأمثاله ودرره.
ومنهم الشيخ حسن طنون، رحمه الله تعالى، وهو من علماء السودان وخطبائهم الكبار المؤثرين، وهو أحد رجلين أثرا في الأجيال بالكويت، مع الشيخ حسن أيوب، وكان خطيبًا لا يُشق له غبار.
وأيضًا الشيخ عبدالحميد كشك، رحمه الله تعالى، وقد حضرت له في مسجده في «دير الملاك» بحي الأقباط في القاهرة، فكنت أبكر بالمجيء من العاشرة صباحًا، وخطبته تستمر إلى مدة ساعة من الزمن، ثم يقدم درساً باللهجة المصرية، يزاوج فيه بين النكتة والمعاني، وكان مستوعباً مشكلات المجتمع التي تُروى له مستعرضاً لها، بأسلوبه العميق والمؤثر، وكان يصلي معه ما لا يقل عن أربعين ألفًا، وخطبه كانت تملأ الآفاق، وتنطلق الأشرطة في البلاد، ونفع الله بها كثيرًا، وكان مخزونه من الشعر والأدب كبيرًا، ولا يكاد يلحن في خطبته».
خصائص الخطبة الناجحة
في نهاية مقدمة النافعة للكتاب عقد حديثًا مهماً تحت عنوان «خصائص الخطبة الناجحة»، وهو أمر يحتاج إليه الخطباء، كما أن الخطب التي تضمنها لهذا الكتاب يجد فيها الداعية والخطيب مصداق هذه الخصائص ماثلاً بين يديه، وشاخصاً أمام عينيه.
وقد ذكر د. البشير عشر خصائص للخطبة الناجحة، هي: وحدة الموضوع، وتضمن الخطبة التأصيل والتنزيل للموضوع، واستيعاب الموضوع بكامل أركانه، والحرص على احترام عقول السامعين بتقديم الجديد والمفيد، والمواكبة لأحداث الواقع وتفاعلاته، والقدرة على استيعاب تنوع جمهور المسجد، والقدرة على أن يكون الخطاب متوسطاً لا ينحدر باللغة ولا يرتفع بسقف الخطاب، وعدم حمل الناس على مركب واحد في التدين دون مراعاة الأعذار والطوارئ، والنأي عن لغة التجريح من التضليل والتفسيق والتكفير، والتفاعل مع مستجدات الواقع في المجتمع.
ومن العبارات الهادية في مقدمة الكتاب قول د. البشير: «وجماع الخطبة الحسنة هو ما كان جمعًا بين إمتاع العقل وإشباع الروح، استحضاراً لقوله تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125)، فالحكمة فيها إمتاع العقل، والموعظة فيها إشباع العاطفة أو الروح».
وختم كتابه بقوله: «جمعت في هذا الكتاب صفحة من تجربتي المنبرية، فكانت مما يقرب من مائة خطبة في مختلف المناحي، منتقاة في العقيدة والشرائع والشعائر والقيم والمعاملات والعمران والحقوق، سائلاً الله تعالى أن ينفع بها إخواني الخطباء ورجال المنابر، وأن يتقبل مني هذا الجهد وهذا العمل وأن يجعله شفيعي يوم القيامة».
إن هذا الكتاب الذي صدر مؤخراً عن دار الأصالة بإسطنبول لا غنى لخطيب أو داعية أو عالم عنه؛ فهو دليل لكل إمام، ومادة علمية ثرية لكل خطيب، وثروة زاخرة بالفكر والتربية والدعوة لكل داعية، ومادة جاهزة ووجبات شهية تنهض بالخطيب والخطبة، وتعزز دور المنبر في حياة الأفراد والمجتمعات.