يستكمل «الإسرائيلي» مخططاته بعد الذي قرره دونالد ترمب بولايته الأولى في ديسمبر 2017م، وهو تطبيق قرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وما ترافق معه من اعتبار الجولان السوري المحتل أرضاً «إسرائيلية».
هذه التطورات ليست مفاجئة، ولكنها بنيت على مشروع القرار الذي صادق عليه الكنيست عام 1980م القاضي بتوحيد القدس الغربية والشرقية واعتبارها عاصمة أبدية لهم، الذي اعترفت به الإدارة الأمريكية والكونجرس عام 1995م، وكانت في عام 1990م أقرت قانون نقل السفارة وبات يخضع للتأجيل نصف السنوي إلى أن جاء ترمب.
هذه التواريخ الأخيرة كانت أمريكا ترعى فيها اتفاقية أوسلو في سبتمبر 1993م، حيث كانت تسوق نفسها راعية السلام في المنطقة، وتريد حل الدولتين الذي يضمن القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية قابلة للحياة.
هذه الأحداث كلها جزء من مسلسل يؤكد أن ضبط إيقاع الشرق الأوسط يتم منذ عقود، وأن مشروع الشرق الأوسط الجديد ليس بجديد، وأن تناسب القرارات مع التطبيق هي مسألة أولويات لمن يخطط للمنطقة، فبينما كانت مسيرة أوسلو تمضي شكلاً، كان الأمريكي يوسع الكيان الصهيوني عمقاً ويعزز التغيير، فإذا كان نقل السفارة قراراً خطوه قبل ثلاثة عقود، فإن ترمب طبقه فقط، وهذا ليس له دخل بالأشخاص، وبالتالي ينساق ذلك على قرارات لم يطبقوها ضمن الإيقاع.
تسعى أمريكا من خلال تثبيت «إسرائيل» تطبيعاً وجغرافياً وتوسعاً إلى تتويج المخطط الذي يلغي تلقائياً جامعة الدول العربية بشكل متدرج ويستبدل جامعة دول الشرق الأوسط بها، لتكون «إسرائيل» متربعة عليها، ولتعددية اللغة التي ينوون إنشاء كياناتها كما التلويح بدولة للأكراد شمال شرق سورية واللغة العبرية لـ«إسرائيل»، بالتالي تعويم الجامعة لتقودها دولة الاحتلال.
هذه القيادة في الأساس ليس لها دخل في بُعد ديني وتاريخي، وإنما في البعد الأمني والعسكري الإستراتيجي لأمريكا التي ردد في خطاباته بايدن عبارته الشهيرة الدالة على أن «إسرائيل» أمن وقاعدة عسكرية وليست ديناً ودولة حينما قال: «لو لم تكن إسرائيل موجودة لخلقناها»، و«إسرائيل وجدت لتبقى»، وهذا مؤشر خطير على تدهور تدريجي يطرأ على أمن المنطقة ودولها، وإن لم يعلن عنه البعض الآن أو ذهب آخرون للتطبيع تفادياً للصدام أو بقي غيرهم في مواجهة هذه العقدة.
الفوضى الخلاقة
تعتمد أمريكا سياسة الفوضى الخلاقة التي برزت في الإعلام منذ العام 2006م، حيث تقضي بتغيير في أنظمة بمقاساتها، وإن غلب رأي الشعب فالخطط البديلة بفوضى واقتتال تؤدي إلى انقلاب عسكري يبقي التحكم بيدها أو بتقسيم للدولة على أن تبقى تسيطر على من يحكمون والأطراف بشكل مباشر وغير مباشر، واليوم يطبقون هذه الحالة في اليمن وسورية وليبيا والسودان، بينما سيطروا ببقاء أنظمة بمقاساتهم أو بانقلابات عسكرية أخفت وسحقت ثورات الشعوب، ليبقى الوطن العربي دون انتخابات وصوت للشعوب حتى يومنا هذا.
اليوم ضبطُ الإيقاع الذي تسعى له أمريكا تزامنَ مع الحديث عن تعددية القطبية على وقع الحرب الأوكرانية الروسية التي بدأت في فبراير 2022م، وما زالت تستقطب أطرافاً وتغير مصالح وصولاً إلى 7 أكتوبر عام 2023م؛ حيث «طوفان الأقصى»، ودخول لبنان واليمن والعراق وإيران على خط المواجهة ضمن ما بات يعرف بـ«وحدة الساحات»، فتشابكت الخيوط وتبعثرت وتغيرت الأولويات، وكانت كلمة السر حتى الآن هي غزة واستمرارها في المواجهة وعدم سقوطها.
هذا الأمر فرض معادلات جديدة يحاول الأمريكي ترتيبها على نغمته بتحييد إيران ومجموعات العراق واحتواء فترة ما بعد سقوط الأسد وإشغال الأطراف اللبنانية في بعضها وترتيبات انتخاب الرئيس، بينما الفشل ما زال مستمراً في احتواء اليمن وكسر غزة؛ ما يعني أن ضبط الإيقاع ما زال يواجه العقبات الكبيرة.
في حالة سورية سيكون نجاح تطبيق الشرق الأوسط الجديد في تقسيم الدولة، بحيث تصبح «إسرائيل» مشرعنة الوجود في الجولان وما بعده في إطار تلويح بفيدرالية الدروز، كما يطالب الأكراد بفيدرالية شمال شرق سورية، وهذا مدعوم مباشرة من الأمريكي، بينما يتم التعامل مع لبنان بصيغة مغايرة بعيداً عن التقسيم بالحل العسكري الذي يخلي جنوب الليطاني من «حزب الله» وتقييد تحركاته ليضعفوا قوته السياسية، وبالتالي يبقى الجنوب بإشراف «إسرائيلي»، ولهم في ذلك تجربة عام 1982م والبقاء هناك مع إنشاء قوات الجنرال اللبناني أنطوان لحد التي تعاونت معهم.
أما الأخطر أمامهم في ضبط الإيقاع تطبيق حلم تاريخي لدى «الإسرائيلي»؛ وهو ضم الضفة الغربية وإقامة دولة المستوطنين «يهودا والسامرة»، وهذا يعني إلغاء السيادة الفلسطينية وهدم مشروع الدولة حتى القابلة للحياة، وتفريغ السكان في تجمعات داخل مدن ضخمة، وإجبار الكثير منهم تحت قوة السلاح المستخدم من المستوطنين والجنود للمغادرة نحو الحدود الشرقية إلى الأردن الذي يرونه الوطن البديل للفلسطينيين، حيث صدر في 18 يوليو 2024م قرار الكنيست بمنع إقامة دولة فلسطينية تزامناً مع «الڤيتو» الأمريكي في مايو 2024م ضد إقامة دولة فلسطينية، وسبقه مصادرة جيش الاحتلال لمناطق «ب» حسب تصنيف اتفاقية أوسلو؛ أي أن ما بقي تحت السيادة الفلسطينية عملياً هو 6% فقط من مساحة الضفة الغربية، وهذا إعدام مباشر لتطبيق القانون الدولي وتجاهل واضح للمبادرة العربية للسلام الصادرة عن جامعة الدول العربية في قمة بيروت عام 2002م، التي تنص على إقامة دولة فلسطينية ثم تطبيع مع «إسرائيل».
اليوم وفي إطار ضبط الإيقاع الذي تحاول عبثاً أمريكا تمريره ستصطدم بصمود الفلسطينيين، وهذا ثابت تاريخي ومتغيرات مفاجئة في مواقف سورية وتطوراتها الداخلية بنجاح وحدتها وعدم التقسيم، وكذلك بما سيكون من «حزب الله» في ملف الهدنة الحالية الممتدة لنهاية يناير الجاري.
وبالتالي، تبقى غزة كلمة السر ومفتاح فشل ضبط الإيقاع.