في أي ديمقراطية حقيقية، تُعدّ المعارضة ركيزة أساسية تُتيح للمواطنين مساءلة السلطة، ومراجعة السياسات، والمطالبة بالعدالة، ولطالما اشتهرت الهند، باعتبارها أكبر ديمقراطية في العالم، بتنوع الأفكار وحرية الاحتجاج السلمي، لكن في السنوات الأخيرة، برزت ظاهرة مقلقة؛ حيث يتم حبس المعارضين السلميين باستخدام قوانين صارمة، بينما يظل المتهمون والمدانون بجرائم خطيرة أو خطابات الكراهية أحرارًا دون مساءلة جادة، هذه المفارقة تعكس اختلالًا خطيرًا في النظام القضائي الهندي.
تُبرز هذه الحالة واقعًا مزدوج المعايير، إذ نجد من جهة ناشطين وأكاديميين، مثل: عمر خالد، وگلفشا فاطمة، وشرجیل إمام، وعرفان مهراج، الذين أمضوا سنوات في السجون دون محاكمة عادلة، وفي المقابل، نرى شخصيات، مثل: رام رحيم، وياتي نارسينجاناند، وبراجيه تاكور، وكولديب سينجا، يحظون بتساهل ملحوظ على الرغم من اتهامهم أو إدانتهم بجرائم جسيمة.
هذا التباين الفجّ يُثير تساؤلات عميقة حول مصداقية العدالة وسيادة القانون، ويُشير إلى تحول مُقلق قد يُقوّض أسس الديمقراطية التي تفخر بها الهند.
سجن الناشطين والمعارضين السلميين
في السنوات الماضية، برزت حالات عديدة تُظهر الاستهداف المنهجي للمعارضين السلميين، يأتي في مقدمتهم عمر خالد، الزعيم الطلابي السابق في جامعة جواهر لال نهرو، الذي اعتُقل في سبتمبر 2020م بموجب قانون مكافحة الأنشطة غير المشروعة (UAPA)، جريمته الوحيدة كانت مشاركته في احتجاجات سلمية ضد سياسات اعتُبرت مجحفة بحق الأقليات، أكثر من 1550 يومًا مضت، ولم تُعقد محاكمة عادلة حتى الآن.
وبالمثل، تعاني الناشطة گل فشا فاطمة، المقيمة في دلهي، من ظروف مشابهة منذ أبريل 2020م، يُظهر احتجازها دون تقدم ملموس في إجراءات التقاضي إصرار السلطات على استخدام الأدوات القانونية لقمع الأصوات الحرة.
وفي حالة شرجيل إمام، الباحث المرموق بجامعة جواهر لال نهرو، تم اعتقاله لمجرد خطاب ألقاه أثناء الاحتجاجات، هذه الأمثلة تكشف بوضوح كيف أصبح قانون «UAPA» أداة قمعية تستهدف المعارضين السلميين، وليس بعيدًا عن ذلك، نرى حالة الصحفي الكشميري عرفان، الذي يواجه اتهامات غامضة لمجرد كشفه الحقائق المزعجة.
لقد وُضع قانون «UAPA» أساسًا لمكافحة الإرهاب، لكنه أصبح سيفًا مصلتا على رقاب النشطاء والأكاديميين والصحفيين؛ ما يتركهم في السجون بلا محاكمة لسنوات طويلة.
التساهل مع المحرضين والمدانين بجرائم خطيرة
على الجانب الآخر من المشهد، نرى التساهل الواضح مع شخصيات مدانة أو متهمة بارتكاب جرائم خطيرة، بل وحتى تحريضها على الكراهية.
رام رحيم، زعيم طائفة ديرا ساشا سودا، أُدين بجرائم بشعة تضمنت القتل والاغتصاب، ومع ذلك حصل على إفراج مؤقت بعفو مشروط، هذا التساهل الفاضح يطرح أسئلة حول التزام الدولة بتطبيق العدالة.
من ناحية أخرى، نجد ياتي نارسينجاناند، الكاهن الهندوسي المعروف بخطاباته التحريضية ضد المسلمين، يواصل تحريضه العلني دون أي مساءلة جدية، رغم الدعاوى القانونية العديدة ضده، لا يزال طليقًا، ما يكرس الشعور بازدواجية المعايير.
أما براجيه تاكور، السياسية في حزب بهاراتيا جاناتا (BJP) والمشتبه بها الرئيسة في قضية تفجير ماليغون عام 2008م، فقد حصلت على الإفراج بكفالة عام 2017م، بل ونجحت في الانتخابات البرلمانية لعام 2019م، هذا الانتصار السياسي يكشف بوضوح استغلال النفوذ السياسي للتملص من العدالة.
وأخيرًا، كولديب سينجار، النائب السابق في حزب «BJP»، الذي أُدين باغتصاب فتاة وقتل والدها، حُكم عليه بالسجن المؤبد، ومع ذلك، حصل على إفراج طبي مشروط، مما يُظهر خللًا في تنفيذ العقوبات بحق شخصيات ذات نفوذ.
ازدواجية المعايير في النظام القضائي الهندي
هذه الأمثلة تكشف عن نمط متكرر من العدالة الانتقائية، فالقوانين الصارمة مثل «UAPA» تُستخدم بانتقائية واضحة ضد الأقليات والناشطين والمعارضين السياسيين، بينما يحظى مرتكبو جرائم العنف وخطاب الكراهية بتساهل غير مبرر.
إن الانتماء السياسي، والهوية الدينية، والطائفية تؤدي دورًا جوهريًا في تحديد مسار العدالة، إن هذه الازدواجية تُضعف من مصداقية النظام القضائي وتترك أثرًا سلبيًا على المجتمع بأسره، إسكات المعارضة وقمع الناشطين يزرع ثقافة الخوف، بينما يُطلق العنان للكراهية ليزيد من الانقسامات المجتمعية.
دور المعارضة في الديمقراطية
المعارضة ليست جريمة؛ بل هي شريان الحياة لأي ديمقراطية، فالتاريخ مليء بأمثلة المقاومة السلمية التي أدت إلى تقدم مجتمعي وإصلاحات سياسية، ومن حركة الاستقلال الهندية إلى الحركات الحديثة المطالبة بالعدالة، كان للنضال السلمي دور محوري في تحقيق التغيير الإيجابي، لطالما اعتمدت على الأصوات الحرة لتصحيح المسار وتحقيق العدالة، من حركة الاستقلال التي قادها المهاتما غاندي، إلى الاحتجاجات الحديثة.
إن قمع الأصوات المعارضة لا ينتهك فقط الحقوق الدستورية، بل يضعف أيضًا أساس الديمقراطية في البلاد، فسجن الطلاب والصحفيين والنشطاء يرسل رسالة واضحة: النقد والمعارضة لن يُسمح بهما، حتى لو كان ذلك على حساب القيم الديمقراطية.
استعادة العدالة والمساءلة
إن الطريق إلى ديمقراطية حقيقية يبدأ بإصلاح النظام القضائي وضمان استقلاليته ونزاهته، لا بد من:
– تسريع إجراءات المحاكمات، ولا يمكن أن يُترك الناشطون والصحفيون قابعين في السجون لسنوات دون محاكمة.
– منع إساءة استخدام القوانين الصارمة، ويجب إعادة النظر في كيفية تطبيق قوانين مثل «UAPA»، لضمان عدم استخدامها كأداة قمعية.
– محاسبة مرتكبي جرائم الكراهية بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الاجتماعية، فيجب أن يُقدم كل من يحرض على العنف أو يرتكب جرائم خطيرة إلى العدالة.
إن قوة الهند تكمن في تنوعها وتعدد أصواتها،و الحفاظ على المعارضة وحماية حرية التعبير هما الضمان الوحيد للحفاظ على القيم الديمقراطية، أما إسكات المعارضة وخنق الأصوات الحرة، فقد يخدم أجندات قصيرة المدى، لكنه يأتي على حساب العدالة، والمساواة، والإنسانية.
وخلاصة القول: إن الهند ينبغي عليها أن تُدرك أن حماية حرية الرأي والمساءلة تقع على عاتق الجميع، فهذه القيم تشكّل حجر الأساس لديمقراطية عادلة تُجسّد روح الهند الحقيقية؛ دولة تحتضن الجميع، وتُقدّر تنوعهم، وتكفل العدالة والمساواة لجميع مواطنيها دون تمييز.