مثلت معركة القبلة الثانية للمسلمين الأول منعطفًا عقديًا وحضاريًا مهمًا في حركة الدعوة ووضع أسس المجتمع الإسلامي وهويته واستقلاله وتحرره نحو التوحيد الخالص لله تعالى، فكانت تولية من الله تعالى نحو تحقيق هذا الاستقلال والتحرر، وأخبر سبحانه تعالى جماعة المؤمنين بهذا القصد من التحويل؛ (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) (البقرة: 148).
كما كان تحويل القبلة مختبرًا إيمانيًا لإيمان جماعة المسلمين في نشأته وفي سياقاته المحفوفة بالأخطار، ومع ذلك جاء أمر تحويل القبلة في ظل هذه السياقات اختبارًا للإيمان وتثبيتًا للثابتين من المؤمنين وتبيانًا للمرتابين الشاكين؛ (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ) (البقرة:143)، فمن يرتد إلى انحرافات أهل الكتاب أو وثنية مشركي العرب هو من ينقلب على عقبيه.
القبلة جهة حضارية لا مكانية وزمانية فقط
القبلة في اللغة هي الجهة التي يستقبلها الإنسان من الناحية المكانية، وفي الاصطلاح الإسلامي: ناحية التوجه في تأدية عبادة الصلاة، لكن الحقيقة أن الأمر الإلهي بالتوجه ناحية القبلة الجديدة (بيت الله الحرام) لم يكن مجرد جهة يستقبلها المسلمون في عبادة الصلاة يولون وجوههم إليها، أو يتوجهون بأجسادهم في بقاع الأرض ناحيتها كي يستقبلوا بيت الله الحرام في صلواتهم اليومية، بل كانت في الحقيقة توجه ناحية الاستقلال الفكري والحضاري والهوياتي للأمة.
هذا الاستقلال والتحرر كان عن توجهين قائمين في الواقع؛ الأول: انحرافات أهل الكتاب ناحية أنبيائهم وكتبهم، والثاني: تشويه التوحيد من قبل المشركين، وكانت أوثان الكعبة مجسدة لهذا التشويه الذي مارسه العرب، فكان هذا الأمر الإلهي بالتوجه ناحية قبلة جديدة بغرضين؛ الأول: التحرر من انحرافات أهل الكتاب (أصحاب قبلة بيت المقدس) الذين ما فتئوا يقولون ويرددون أكاذيبهم (ما له –أي النبي- يخالف ديننا ويتبع قبلتنا)، والغرض الثاني: تحرير التوحيد من التوثين الذي لحق به عبر مشركي العرب الذي تجسد في أوثان الكعبة.
جاء وصف القرآن لهذا التحول بأنه «الحق» (الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) (البقرة: 147)، وهذا الحق المتمثل في هذه القبلة الجديدة وما يحمله هذا التوجه من مسؤوليات وتبعات وتكليفات لخصها القرآن في أن هذه الأمة صاحبة هذه القبلة هي «الأمة الوسط»، فجاء في معرض بث الاطمئنان لقلوب الجماعة المؤمنة في ظل مناخ مليء بالتكذيب وإرسال الشائعات والأباطيل لدرجة أن الله تعالى يثبت نبيه ويدعوه إلى إزالة أي تفكير فيما يقوله اليهود والنصارى والمشركين فيقول له: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (البقرة: 147).
تحويل القبلة وعلاقته بمفهوم الإسلام
جاء حديث الله للمؤمنين مبينًا لهم هذا التوجه التحرري والاستقلالي للقبلة بأنه إنشاء وتأسيس للأمة الخاتمة؛ الأمة الوسط ذات المهام والوظائف الخالدة والنهائية على الأرض؛ (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143)، إن مهمة الوسط ألا تنجرف مع التيارات الانحرافية السائدة، ولا الاتجاهات الوضعية التي تقوم على الهوى لخدمة مصالح طبقية أو طاغوتية أو قارونية أو فرعونية، وإنما مهمة هذه الأمة تحقيق الشهود والشهادة على الأمم التي انحرفت وما زالت تغرق في انحرافاتها الأرضية بالابتعاد عن التوحيد والمنهج الحق.
إن دعوة القرآن للأمة الخاتمة في أنها لا تخشى قول القائلين الكاذبين، بل إن خشيتها الحقيقية يجب أن تكون لله لا من المشركين ولا أهل الكتاب؛ (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) (البقرة: 150)، وذلك لأن معركة التوحيد مستمرة وتخليص قبلة التوحيد –بيت الله الحرام- مستمرة، وتخليص دعوة التوحيد من التوثين في كل زمان ومكان ومستمرة، لذلك ذكر تحويل القبلة الثانية، ولم يذكر –وقد كان وحيًا بالتأكيد لكنه غير مكتوب وغير منزل في القرآن- الأمر بالتوجه ناحية القبلة الأولى (بيت المقدس).
معركة القبلة والتوحيد الخالص
القبلة الثانية إذن هي قبلة تخليص التوحيد مما لحق به من مشركي العرب من التوثين والجاهلية، وتخليص كتب الأنبياء السابقين من انحرافات وأكاذيب أهل الكتاب على أنبيائهم وكتبهم الذين كتموا الحق حق النبوة والقرآن والقبلة؛ (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 146).
إن معرض التوجيه الإلهي هنا للأمة ألا تقع فيما وقع فيه هذان الفريقان القائمان؛ توثين التوحيد وتجهيله، والثاني كتمان الحق أو حمله كما حمل أهل الكتاب التوراة؛ (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) (الجمعة: 5)، فالأمة بقبلتها الجديدة يجب ألا تقع في براثن هذين المسارين الضالين حتى تلقى الله تعالى، فلا ينبغي أن تشوه التوحيد بالتوثين أو التجهيل، أو تكتم الحق الذي في كتابها ولا تبينه للناس فتقع في التكذيب بآيات الله، لا ينبغي للأمة الوسط أن تسقط في الأهواء والانحراف والتكذيب بما جاءها من أجل مصالح دنيوية زينت لها أو تزين لها في المستقبل.
إن حقيقة معركة القبلة التي أطلق السفهاء إعلامهم المعادي يولولون ويشنعون على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بهذا التحويل وصفهم القرآن بالسفهاء، ووصف قولهم قبل أن يقع منهم؛ (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) (البقرة: 142)، كانت في الحقيقة منازعة الأمة في جهادها إلى الصراط المستقيم؛ (قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (البقرة: 142)، فلم يكن التوجه إلا عن طريق هذه الهداية التي أصبحت تكليفاً للجهاد في سبيله؛ أي سبيل الصراط المستقيم وليس غيره.
تحويل القبلة ومنظومة القيم
المقاومة.. ومعركة القبلة المعاصرة
يعود التاريخ من جديد فيشوه التوحيد وتضعف حركة الأمة ويحيط بها المنافقون واليهود الصهاينة ومن حولهم من التابعين والمطبعين على طريقتهم في محاولات حرفهم وتضليلهم لمسار الأمة عن الصراط المستقيم، وكانت معركة القبلة في الشهر السادس عشر أو السابع عشر للهجرة، لم تكن شوكة المسلمين قويت بعد، بل كانوا مهاجرين نازحين باصطلاح اليوم من وطنهم إلى وطن آخر فرارًا بدينهم وثقافتهم وهويتهم، وواجهوا كل هذه الحملات الممنهجة المادية والمعنوية، ولم يكن هناك معين واحد سوى ذلك القرآن الذي كان يتنزل لتثبيت قلوبهم ووعدهم بأنهم على الحق، وأنهم مجازون بالخير والجنة على هذا الثبات على الصراط المستقيم.
وكذلك المقاومة اليوم، وما أشبه اليوم بالبارحة! تخوض معركة القبلة من جديد، وكأن القرآن يتنزل عليهم من جديد، تخوض المقاومة معركة ظاهرها تحرير القبلة الأولى، ولكن باطنها وحقيقتها أن تخوض معركة القبلة الثانية بمقاصدها؛ تخليص توحيد الأمة من التوثين، ورد انحرافات اليهود الصهاينة وتضليلهم للأمة ومحاولتهم الهيمنة على الإسلام ومصادر قوته.
إن معركة القبلة المعاصرة التي تقودها المقاومة هي بحق التحرير الثاني للأمة، بعد التحرير الأول الذي قاده النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الأُول، فالغبش والتوثين اللذان أصابا رؤية المسلمين وتصوراتهم وتوحيدهم في ضوء انجرار قطاع منهم لالتزام خط الضلال الوضعي والاستجابة لأقوال السفهاء ناحية دين المسلمين ومقدساتهم وقبلتهم كاد أن يمحو وجود هذه الأمة الوسط الشاهدة، فبعث الله المقاومة لتحيي القرآن من جديد وتحفظ للتوحيد نقاءه وللقبلة نقاءها وخلوصها وتحررها واستقلالها.
ومن ثم جاءت المقاومة تتلو آيات القرآن من جديد، وتقدم لنا نماذج من التزكية افتقدتها الأمة عبر قرون، وتعلمنا الكتاب والحكمة على طريقة النبوة الخاتمة وكل ما تعلنه المقاومة وتقوم لا يتجاوز هذه المهمات الثلاث، وهو اختبار لجموع المسلمين في إيمانهم ممن يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.