تفسير انتصار ثوار سورية على نظام بشار الأسد الطاغوتي يحتاج إلى قراءة جديدة لتاريخ الحركة الإسلامية في العصر الحديث؛ فهذا النصر كان نتيجة لثورة عقول وقلوب استمدت قوتها من الإيمان بالله وحده.
ومع أهمية التخطيط الإستراتيجي والإبداع، وإعداد القوة وإدارة الفرصة التي أتاحها واقع عالمي مضطرب، إلا أن الدراسات الثقافية يمكن أن تسهم في بناء تفسير متكامل، وتسهم في زيادة وعي الأمة، وقدرتها على اختيار قياداتها الذين يمكن أن يستثمروا ثروتها البشرية، ويحفزوا عقول الشباب للابتكار والإبداع، ويملؤوا قلوبهم بالثقة في نصر الله.
من سيرته نتعلم
لكي نفهم كيف تمكن ثوار سورية من تحقيق النصر يجب أن نقرأ سيرة مروان حديد وديوان شعره.. لماذا؟! إن الانتصارات تحققها عزائم رجال تربت على الصمود والإصرار والقوة والاعتزاز بالإسلام ديناً وعقيدة وثقافة وشريعة وحضارة، وهذا ما يمكن أن نجده في سيرة القائد مروان حديد الذي واجه النظام الطاغوتي بقوة المؤمن، وأصالة القائد، والتمسك بالمبادئ، ورفض التنازلات والمساومات، ولذلك قدم القائد حديد للأمة رؤيته؛ التي ظلت تضيء لثوار سورية الطريق؛ حتى حرروا دولتهم من الاستبداد.
الأدب يقود الكفاح
تمكن حديد من التعبير عن رؤيته؛ شعرًا ونثرًا وعملًا وكفاحًا ومقاومة وجهادًا واستشهادًا، فلقد عرفته مساجد سورية خطيبًا تشتاق لكلماته قلوب الأحرار، وعقول الحالمين بعدل الإسلام.
كلماته أطلقت خيال الأمة لتعيش في ذلك الزمن الذي كان فيه المسلمون سادة العالم وبناة الحضارة وصناع التاريخ، وتمكن من صياغة الحلم في خطبه وشعره، فالحلم هو الأساس الذي تقوم الثورات لتحقيقه، ولذلك فإن أهم ما يقدمه القائد لشعبه هو الحلم؛ فهو الذي يوحد الشعب، ويدفع الشباب للتضحية.
دليل الأصالة
يعرف السوريون جميعًا أصالة نسب حديد؛ فهو ينتمي لعائلة حموية عريقة، وكانت تلك الأصالة قد شكلت شخصيته القوية التي تدافع عن المبادئ وتضحي من أجلها، والعقل يعمل بكل طاقته حتى إذا ما اقتنع بتلك المبادئ رسخت في القلب؛ فأصبح مستعدًا للدفاع عنها، والموت في سبيلها لتدب فيها الحياة، وتصبح أساسًا للثورات التي تغير الواقع مهما كان ظلامه وقسوته.
حياة الإنسان وموته من أجل مبادئه دليل على أصالته، والأمة دائمًا تحتاج للقيادة الأصيلة التي تنبئ الرؤية من خلال فهم الدين والعقيدة والهوية والحضارة الإسلامية.
استمرارية الحركة الإسلامية
أهم ما يمكن أن تكشفه قراءة سيرة حديد أن الحركة الإسلامية مستمرة مهما كانت المحن والابتلاءات التي تواجهها، وعندما يستشهد قائد ينطلق قادة جدد يحملون راية الإسلام، ويضحون بحياتهم لتحقيق النصر؛ فحركة الأمة لا تتوقف لموت قائد مهما كانت أهميته.
لم تدرك قوى الاستعمار والاستبداد تلك الحقيقة التي يقدم تاريخ الحركة الإسلامية الكثير من الأدلة علي صحتها، فلم يكن الإنجليز يتصورون عندما قتلوا حسن البنا، أن شهادته ستدفع شابًا في سورية ليفكر ويبحث ويقرأ تراثه ليفهم لماذا قتلوه؛ فيكتشف طريقه، وينطلق خياله، ويحدد أهدافه، ويبني رؤيته، ويصبح قائدًا أصيلًا يدافع عن المبادئ ويستشهد من أجلها؛ فتلهم سيرته وكلماته ورؤيته وشهادته ثوار سورية ليستمروا في كفاحهم حتى تنتصر ثورتهم، ويتمكنوا من إسقاط النظام الطاغوتي المغرور بقوته، ويحرروا الآلاف من سجونه؛ وليضيؤوا الطريق لكل الأحرار ليبنوا المستقبل على أسس الحرية والعدل.
وسيرة حديد تقدم لنا الأدلة على أن دماء الشهداء تضيء الطريق للأمة لتفرض إرادتها، وتعيد بناء الحضارة الإسلامية العظيمة التي عرفت الإنسانية في ظلها العدل والكرامة، والشام تحتل مكانتها في وجدان الأمة؛ فمنها يمكن أن تنطلق لتبني المستقبل؛ وهذا أكثر ما يخيف الطغاة.
الأضواء تشع من المحن
انطلق حديد إلى مصر ليكمل تعليمه في الجامعة، وكانت جماعة الإخوان المسلمون تعيش محنتها التي بدأت عام 1954م، ورجالها يتعرضون للتعذيب، فمضى يبحث عن الذين لم يتم اعتقالهم ليعيد بناء التنظيم، ولا يأبه بمطاردة الأمن له، وعاد إلى سورية عام 1964م ليبدأ نشاطه في الدعوة ويتجمع حوله الأحرار الذين أطلقت كلماته لخيالهم العنان، فاشتاقت قلوبهم لنصر الإسلام، لكن النظام الطاغوتي هاجم المسجد الذي يخطب فيه، وتمكن من القبض عليه، ثم حكم عليه بالإعدام، لكنه اضطر للإفراج عنه خوفًا من ثورة حماة.
بعد هزيمة عام 1967م، بدأ حديد في تشكيل كتائب الفدائيين ضد الاحتلال «الإسرائيلي» في الجولان، لكن النظام بدأ يطارده حتى تمكن من إلقاء القبض عليه عام 1974م، وتعرض لكل أشكال التعذيب في سجن المزة حتى تحول جسده القوي إلى هيكل عظمي، ورفض الطعام لأنهم كانوا يقدمونه له بعد أن يخلطوه أمامه بالبول والأوساخ، وفي النهاية قاموا بقتله بحقنة في عنقه عام 1976م، فنال الشهادة التي طالما تمناها، ودبت الحياة في كلماته التي ظل ينشدها شباب الحركة الإسلامية في سمرهم لتشد من أزرهم وتزيد صمودهم وإصرارهم.
شكلت الأناشيد التي صاغها حديد وغناها شباب الحركة الإسلامية تراثًا نضاليًا، وأساسًا لتربية الوجدان والمشاعر، لكن الحركة الإسلامية لم تتمكن من إذاعة ذلك التراث الذي كان يمكن أن يشكل بديلاً حضارياً للكثير من أشكال الغناء الذي انتشر بين الجماهير.
وكان شباب الحركة الإسلامية السورية ينشرون بعضًا من أناشيدهم منذ عام 2011م على «يوتيوب»، لذلك أتمنى أن تقوم الثورة السورية بنشر تلك الأناشيد، فهي تشكل ثروة فكرية وفنية، ويمكن استخدامها في تربية وجدان جيل جديد بالإيمان والحكمة، ولكن ما دور مروان حديد في هذه الأناشيد؟!
هذا ما سنعرفه في الجزء الثاني من المقال.