كاتب المدونة: مجدي حسين عيسى (*)
لم يعرف العربي في حياته في بيئته الصحراوية التي عاشها قبل الإسلام معنى للحياة بدون الحرية، فقد كانت الحرية بالنسبة له هي خبزه اليومي، والشيء الوحيد الذي كان يحد من هذه الحرية هي روابطه القبلية والعادات والتقاليد، غير ذلك لم يكن هناك قانون مكتوب أو أي شكل من أشكال السلطان التقليدي الذي كان معروفاً في الدول المجاورة.
تغير كل شيء بعد الإسلام، كان حجم التغيير في حياة العرب كبيراً، فقد أصاب هذا التغيير كل صغيرة وكبيرة من حياتهم، كان تغييراً نفسياً، كان إعادة بناء لشخصية العربي المتمردة، إعادة بناء للعلاقات الاجتماعية، وإعادة بناء النظام الاجتماعي، كان الإسلام هدماً لنظام قديم من الأساس وتشييد نظام جديد تماماً، نظام لم يألفه العربي من قبل على مدى تاريخه الطويل، وربما كان نظاماً لم يألفه العالم من قبل، فلم يكن ديناً على نمط الأديان التي كانت معروفة في ذلك الزمان، أو على غرار تلك الأديان التي انتقلت بقاياها إليهم بالوراثة.
نعم جاء الإسلام ليضع قيوداً صارمة تحد من الكثير من الحرية التي كان يتمتع بها العربي في حياته في ذلك الحين، جاء الإسلام ليقول له: لا تشرب الخمر، وكانت الخمر كالدم تجري في عروقه، وجاء الإسلام ينهاه عن الزنى، وجاء الإسلام ينهاه عن القتل، وعن أفعال كثيرة لا مجال هنا لسردها، ولكنها كانت تمثل كلها جزئيات حياته اليومية ومعالم حريته التي لا تقوم حياته بدونها.
ولم يكن تنازله عن هذه السلوكيات بالأمر الهين، ولكن في النهاية وكما يحدثنا التاريخ، انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وقد بسط الإسلام ردائه على جميع أنحاء الجزيرة العربية ونجح في ترويض العربي ونقله إلى مرحلة جديدة من الحياة لم يكن يألفها من قبل.
السؤال الآن: هل كان الإسلام بالنسبة له يمثل قيداً على حريته؟ نعم كان قيداً على حريته بالمفهوم الجاهلي، بل لو أردنا لدقة كان الإسلام تهذيباً لحياته، وتأهيله لحياة من نوع جديد ليس للعربي وحده، ولكن للعالم كله، تحول العربي الذي كان يعاقر الخمر من سنوات قليلة ويفاخر في شعره بفتوحاته الغرامية، تحول إلى فاتح يحمل رسالة استطاع في سنوات معدودات أن ينشرها في جميع أرجاء العالم، وهو الذي كان لا يغادر أرضه إلا تاجراً مرتين في العام لا يتعدى فيهما تخوم صحرائه.
لأننا نركز على الحرية وعلاقتها بالإسلام، وإذا ما كان الإسلام يضع قيوداً على الحرية ولا يتوافق مع مفاهيم الحرية، فسوف نركز على هذا الجانب، والسؤال الآن: ما الجانب الذي تقاس به الحرية في أي مجتمع؟
دائماً يُنظر إلى النظام السياسي على أنه هو المظهر الأكثر وضوحاً للحكم على مجتمع ما، ووصفه إن كان حراً أو غير حر، وعلى المستوى الاجتماعي هل يلقى رعايا الدولة من النظام الحاكم معاملة متساوية وعادلة لا تفرق بين أعضائه ولا تميز بينهم بغض النظر عن النوع أو الجنس أو الدين؟
يجب أن نضع في اعتبارنا قبل طرح أي تصور للإجابة عن هذه التساؤلات عدة اعتبارات، أولها: طبيعة النظام السياسي في الإسلام؛ نظام الخلافة، فمنزلة الخليفة في الإسلام منزلة لها وضعية خاصة، ومهما كان حجم الاختلاف مع الخليفة أو النقمة عليه، فإن الشرع لا يبيح الخروج عليه أو شق عصا الطاعة، وهذا يفسر موقف الكثير من المعارضين والعلماء من الخلفاء رغم اختلافهم معهم واعتراضهم على تصرفاتهم، فكان لديهم أساليبهم في التعامل مع هذا الانحراف دون اللجوء إلى الخروج عليهم أو الدعوة للثورة عليهم.
ولعله كان من المفترض أن يضع العلماء وأهل الحل والعقد آلية ما للتعامل مع انحراف الولاة أو الخلفاء، ولكن هذا الجانب لم ينل اهتماماً كافياً من العلماء أو غيرهم خلال مسيرة التاريخ الإسلامي، لذلك فإهمال هذا الجانب كان سبباً في اتساع زاوية الانحراف في المجتمع الإسلامي ما بين النص والتطبيق التي بدأت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن القرب من عهد النبوة مكن من التغلب عليها لصفاء النفوس وعمق الإيمان كحادثة اختيار الخليفة في سقيفة بني ساعدة، وحروب الردة.
الاعتبار الثاني: تحول نظام اختيار الخليفة من نظام الاختيار المبني على الشورى إلى نظام الوراثة، هذا التحول لم يكن تقليداً إسلامياً، ولم يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم ينص عليه القرآن بأي صورة من الصور، بل لم يكن من أدبيات الفكر الإسلامي، ولكنه كان انحرافاً خطيراً زاد من اتساع زاوية الانحراف عن المنهج، ولكننا رغم ذلك لا نظلم كل من تولى الخلافة من الأسر التي حكمت على مدى التاريخ الإسلامي، فقد كان منهم المحسن، وكان منهم الصالح، كما كان منهم المسيء الذي كان وبالاً على الإسلام وأهله.
الاعتبار الثالث: ما ترتب على مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، والخليفة الرابع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وولديه الحسن، والحسين رضي الله عنهما، قبل استقرار الأمر في يد معاوية بن أبي سفيان وأسرته رضي الله عنه، ورحمهم الله جميعاً، فقد ترتب على هذه الأحداث نتائج ما زلنا نعاني منها حتى الآن.
الاعتبار الرابع: اتساع رقعة الدولة الإسلامية اتساعاً شاسعاً في مدة يسيرة، ودخول أجناس شتى تحت مظلة هذه الدولة، فلم يكن كل من انضوى تحت هذه المظلة يحمل قلباً سليماً أو إيماناً صادقاً أو نية خالصة، ولذلك فقد تعرضت الدولة الإسلامية لكثير من المؤامرات والهزات السياسية التي لولا طبيعة هذا الدين ما قامت له قائمة حتى الآن.
الاعتبار الخامس: العوامل الخارجية التي تمثلت في أعداء هذه الدولة سواء من الروم أو غيرهم، فلم تفتر عزيمتهم في مناهضة الدولة الإسلامية لحظة واحدة، وكانت هناك حملات شرسة استمرت عقوداً طويلة اجتاحت بلاد المسلمين، مثل الزحف المغولي وسقوط بغداد، والحروب الصليبية التي استمرت في ثماني موجات متتالية على مدى ما يزيد على قرن من الزمان.
وهناك عدة اعتبارات أخرى، ربما منها العزلة العلمية والاقتصادية التي تعرض لها المسلمون في أعقاب اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح واكتشاف العالم الجديد، فقد أدى ذلك إلى ضياع موارد اقتصادية مهمة وزوال سيطرة المسلمين على بحارهم وشواطئهم التي بدأت تسقط تباعاً تحت سيطرة الأمم الأوروبية سواء في البحر المتوسط أو الأحمر أو المحيط الهندي.
في ضوء هذه الاعتبارات نستطيع أن نقول بدرجة لا بأس بها من اليقين: إن المسلمين لم ينجحوا في إظهار الصورة الحقيقية للنظام الإسلامي خلال تاريخهم الطويل إلا في فترة الخلافة الراشدة وما بعدها بقليل، وأنهم قد انحرفوا، وقد كان الخلل بقدر الانحراف، فكلما كان الانحراف كبيراً كان الخلل يساويه أو يزيد عليه، ولكن رغم هذا الانحراف فقد نجح المسلمون في تحقيق الكثير، ولكن أضاع انحرافهم هذه الإنجازات العظيمة.
كانت هناك محاولات كثيرة للإصلاح، كما كان هناك من العلماء من حاول معالجة الخلل وقاد حركات إصلاحية، ولكنها كانت تضيع في ضوء ما ذكرنا من اعتبارات، كما أنها كانت تفتقر إلى الاستمرار والمنهجية، وكانت حركات فردية غير مترابطة، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك.
___________________
(*) كاتب ومترجم.