في لحظة مهيبة خيم فيها الحزن على قلوب المسلمين، ودعت الأمة الإسلامية والشعب السوري عالماً جليلاً وداعية مخلصاً؛ الشيخ المربي سارية الرفاعي، الذي انتقل إلى رحمة الله في مدينة إسطنبول يوم الإثنين 6 رجب 1446هـ/ 6 يناير 2025م، رحل عنا بعد رحلة حافلة بالعطاء، تاركاً خلفه إرثاً علمياً ودعوياً وإصلاحياً يشهد له بالصدق في خدمة الإسلام والمسلمين.
نشأة في بيت علم وتقوى
في حي القنوات، أحد أعرق أحياء دمشق القديمة وموطن العلماء والصالحين، أبصر الشيخ سارية الرفاعي النور عام 1948م، كان ميلاده بشارة خير؛ فقد احتضنت أزقته وحاراته على مر التاريخ كوكبة من العلماء والمصلحين، ليكون امتداداً لهذا الإرث العلمي النبيل.
ونشأ الشيخ الرفاعي في كنف والده العلَّامة الشيخ عبدالكريم الرفاعي، مؤسس «جماعة زيد»، إحدى أبرز الجماعات الإسلامية في سورية، تشرب العلم والأدب منذ نعومة أظفاره، وترعرع مع شقيقه الشيخ أسامة في بيت امتزج فيه العلم بالعمل، والتربية بالتزكية؛ (كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء) (إبراهيم: 24).
وفي هذا البيت المبارك، تشكلت الملامح الأولى لشخصية الشيخ العلمية والدعوية؛ فتلقى القرآن والعلوم الشرعية على يد والده مباشرة، وحضر دروس كبار علماء دمشق في سن مبكرة، وتأثر بالمنهج التربوي الفريد لـ«جماعة زيد»، فنشأ على حب العلم والعلماء وخدمة الناس، وتأثر بالبيئة العلمية التي اتصفت بالجمع بين العلم والتربية، والاهتمام بالجانب العملي مع التأصيل العلمي، والحرص على خدمة المجتمع وإصلاحه.
ولم يكد يبلغ السابعة عشرة من عمره حتى بدأ نشاطه الدعوي، حيث أرسله والده إماماً في جامع القصور بمنطقة التجارة عام 1965م، ليؤسس فيه عملاً دعوياً مباركاً مع ثلة من إخوانه، مما يدل على نضج مبكر ونشأة مباركة في بيت العلم والتقوى.
رحلة طلب العلم والمعرفة.. من دمشق إلى القاهرة
بدأت رحلة الشيخ العلمية في معهد الجمعية الغراء، فنهل من معين علماء أجلاء، منهم: الشيخ عبدالرحمن الزعبي في التفسير، والشيخ أبو اليسر عابدين في الفقه والنحو، والشيخ محمد صالح الفرفور في البلاغة والخطابة، وغيرهم كثير رحمهم الله تعالى.
وفي عام 1966م، حط الرحال في رحاب الأزهر الشريف، تلك المنارة العلمية العريقة، ودرس في كلية أصول الدين، وتتلمذ على يد علماء أفذاذ: شيخ الأزهر د. عبدالحليم محمود، والشيخ عبدالوهاب عبداللطيف في الحديث، والشيخ محمد محمود حجازي في التفسير وغيرهم رحمهم الله تعالى.
وأثمرت رحلته العلمية بحصوله على شهادة البكالوريوس من كلية أصول الدين عام 1971م، ودرجة الماجستير في التفسير عام 1977م، وإجازات علمية من كبار علماء عصره.
وتميزت دراسته بالشمول والتنوع والجمع بين العلوم الشرعية من تفسير، وعقيدة، وحديث، وفقه، واللغة العربية من نحو، وصرف، وبلاغة، والعلوم العصرية مثل الكيمياء، والفيزياء، والعلوم والتاريخ، فانعكس هذا التكوين العلمي المتين على شخصيته وعطائه، عمقاً في الفهم وسعة في الأفق، وقدرة على الربط بين الأصالة والمعاصرة، ومنهجية علمية رصينة في التعامل مع القضايا، وموسوعية في الطرح وشمولية في المعالجة.
صوت الحق في زمن الصمت
منذ أن اعتلى منبر جامع زيد بن ثابت، عرف الشيخ الرفاعي بقوة بيانه وصدق كلمته، فكان يجمع بين قوة الطرح وعذوبة الأسلوب، وعمق المضمون وجمال العبارة، وشجاعة القول وحكمة التوجيه، وكان مصداقاً لقول الله تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل: 125).
وتميز الشيخ في إمامته بمنهج وسطي معتدل؛ يقرب ولا يبعد، ويبشر ولا ينفر، ويجمع الكلمة ويوحّد الصف، ويعالج القضايا بحكمة وبصيرة، وامتد تأثيره العميق في النفوس عبر الدروس العلمية المنتظمة، والخطب المنبرية المؤثرة، واللقاءات التربوية الخاصة، والتوجيه المباشر للشباب، حتى أصبح منبره مدرسة متكاملة في الدعوة والإصلاح، يشهد له بذلك الآلاف ممن تأثروا بخطبه ودروسه وتوجيهاته.
وسجل التاريخ للشيخ مواقف شجاعة؛ منها إضراب دمشق عام 2012م بعد مجزرة الحولة، والصدع بكلمة الحق في وجه الظلم، والثبات على المبادئ رغم التهديدات، ورفض المناصب حفاظاً على استقلالية الدعوة.
وفي عصر تكالبت فيه المصائب على الأمة، وتعددت فيه حاجات المجتمع، برز الشيخ الرفاعي بنظرته الثاقبة وفكره المستنير في تأسيس مشاريع خيرية رائدة، كان إيمانه عميقاً بأن العمل المؤسسي المنظم هو السبيل الأمثل لخدمة المجتمع وتلبية احتياجاته، فأسس جمعية حفظ النعمة التي غدت نموذجاً يحتذى في العمل الخيري المؤسسي، حيث بدأت بمشروع الغذاء عام 2003م لجمع فائض الطعام من المطاعم والمناسبات، ثم تطورت لتشمل تقديم الوجبات الغذائية الجديدة للمحتاجين، محققة بذلك مقصداً شرعياً عظيماً في حفظ النعمة وإطعام الطعام.
ولم يقف طموح الشيخ عند هذا الحد، بل توسعت مظلة العمل الخيري لتشمل مشروع الكساء عام 2004م، الذي تجاوز فكرة جمع الملابس المستعملة إلى توفير الملابس الجديدة من المصانع مباشرة، ثم تلاه مشروع الدواء عام 2005م الذي عالج أزمة الدواء المتفاقمة في المجتمع، يليه مشروع الأثاث عام 2006م لمساعدة الشباب المقبلين على الزواج، مجسداً بذلك فهماً عميقاً لاحتياجات المجتمع ومتطلباته المتجددة.
وفي عام 2007م، أطلق الشيخ مشروعه الأكثر تميزاً في كفالة اليتيم، متجاوزاً مفهوم الكفالة المادية التقليدية إلى رؤية شمولية تكاملية تجمع بين الرعاية المالية والتوجيه التربوي والمتابعة الدراسية، مع عناية خاصة بالأمهات الأرامل، نجح المشروع في رعاية ما يزيد على 30 ألف يتيم في دمشق وريفها، مقدماً نموذجاً فريداً في العمل الخيري المؤسسي المتكامل.
وفي المجال العلمي والدعوي، أسس الشيخ مركز زيد بن ثابت الذي غدا منارة علمية ودعوية متكاملة، يجمع بين التعليم والتربية والإعلام، وقام المركز بإعداد مناهج متميزة للدورات الصيفية في المساجد، وأطلق قناة الدعوة الفضائية التي قدمت نموذجاً راقياً للإعلام الإسلامي الهادف، وقد دعاني مع الشيخ نعيم العرقسوسي فكنت عضواً في مجلس إدارته، قبل أن يتم إغلاقها من قبل النظام السوري، كما أسس مكتبة الغزالي للطباعة والنشر التي أثرت المكتبة الإسلامية بآلاف الكتب والدراسات العلمية والأدبية والثقافية.
كانت هذه المشاريع والمبادرات تجسيداً عملياً لفهم الشيخ العميق لدور العالم في خدمة مجتمعه، متجاوزاً دور الوعظ والإرشاد إلى العمل المؤسسي المنظم الذي يلمس احتياجات الناس ويعالج مشكلاتهم بطريقة علمية ومنهجية، شكلت هذه المبادرات نموذجاً رائداً في العمل الخيري والإصلاح المجتمعي، وتركت بصمة لا تمحى في تاريخ العمل الخيري في سورية والعالم الإسلامي.
يتبع في الجزء الثاني: مواقف الشيخ في زمن الشدة.