عدد من رسائل أسرى الكيان التي بثتها «كتائب القسام» عبر الفضائيات العربية تابعها العالم أجمع أثرت بنسبة ليست كبيرة في الشارع العالمي الرسمي والشعبي، كانت تروي تلك الرسائل ما يعتبره العالم مآسي إنسانية لبشر لا ذنب لهم في حبسهم 460 يوماً في حرب إبادة لا تتوقف على مدار الساعة.
ومن هؤلاء الأسرى مَن فقَدَ حياته نتيجة قصف جيشه المجرم دون مراعاة وجودهم، ولا تراعي فيها الفرق بين مستشفى أو مسكن أو خيمة تغرقها الأمطار وتهطل عليها القنابل الحارقة لتقتل من فيها من نساء أو أطفال خدج أو شيوخ لا يستطيعون حمل أنفسهم بعيداً في أماكن آمنة، لأنه ببساطة لا يوجد بالأنحاء كلها مكان آمن، فيقتل من يقتل، ويصاب من يصاب سواء كان مدنياً أو أسيراً دون حرص من القتلة على حياة أي إنسان مهما كان دينه أو جنسيته أو جنسه أو عمره.
وفي مطلع هذا الأسبوع، بثت القنوات الفضائية فيديو مسجلاً للأسيرة المجندة ذات التسعة عشر عاماً ليري الباج التي قضت في الأسر على حد قولها 450 يوماً، وجهت فيها عدة رسائل إنسانية وقوية لرئيس حكومة الكيان -وتبدو أنها على غير دراية بمستجدات الأحداث، وأنه طريح الفراش يتلقى علاجاً إثر جراحة عاجلة، وأن من يدير المشهد المجلس الحربي المنعقد على مدار الساعة- وجهت رسالتها لرئيس الوزراء الذي يعرف والدها شخصياً -على حد قولها- بأن يواجهه ووالدتها ويخبرهم بأن ابنتهما ومن معها لن يعودوا، وذلك من باب الضغط على أهالي الأسرى والرأي العام المعني بهم وبأحداث الحرب، وكذلك للضغط على حكومة الكيان، وعلى القائمين على المحادثات التي عادت للطاولة لقبول صفقة بإنهاء الحرب، لأنه لا سبيل لخلاصهم وعودتهم أحياء ما دامت الحرب قائمة.
عبقرية الصورة واختيار المرسل
لقد بدأت الأسيرة حديثها وهي تبدو في حالة هزيمة نفسية مروعة، ترتدي زياً عسكرياً وهو غالباً الزي الذي تم أسرها فيه، وبالطبع هي لم ترتده منذ أسرها، وإنما تم اختيار «القسام» له ليعلم المشاهد أنها ليست فتاة عادية في سن المراهقة، وإنما هي مجندة تعلم ما تقول، وتستطيع إدراك مدى سوء الوضع الذي تعيش فيه، وتستطيع كذلك تمييز نوع القصف وحجمه ومصدره، وأن تلك الصواريخ التي تهطل عليهم كحبات مطر شتاء غزة القارس والقاسي صواريخ جيشها الذي جندت به، ولم يضع اعتباراً لحياتهم كجنود أو مدنيين، ويسير في منهجه في التطهير العرقي بصرف النظر عن سلامة جنوده.
“أسألكم يا حكومة إسرائيل هل تريدون قتلنا؟”.. كتائب القسام تنشر فيديو للمجندة “ليري الباج” الأسيرة الإسرائيلية في #غزة منذ أكثر من 450 يوما#حرب_غزة #الأخبار pic.twitter.com/GPvmDz1Epk
— قناة الجزيرة (@AJArabic) January 4, 2025
وبدت الأسيرة في حالة ضعف نفسي شديد بالرغم من قوتها البدنية الظاهرة؛ مما يدل على رعاية ربما لا يحظى بها أطفال غزة الذين يرتقون على مدار الساعة، إلا أن كلماتها الإنسانية كانت حادة لرئيس حكومتها وقيادة جيشها، ووجهت لهم اتهامات مباشرة بالضلوع في قتلهم طالما انتهجوا نفس السياسة بالاستمرار في الحرب، بل واتهمتهم بأن هناك تعمداً في التضحية بهم.
وختمت حديثها بتوجيه رسائل استغاثة لأهلها وأهل زميلتها المصابة التي تنتظر الموت المحقق إن لم يتم وقف الحرب على الفور بالتوصل إلى صفقة ما.
لقد أبدعت «القسام» في اختيار الشخص الذي يقوم بحمل تلك الرسائل لتحريك الشارع «الإسرائيلي» ضد الإبادة اليومية، وأيضاً في توقيت عودة المفاوضات مرة أخرى للضغط الإنساني على العالم الصامت، طالما أنه لم تحركه مأساة حرب الإبادة التي تجري في حق الفلسطينيين على مستويين؛ الأول: هو حرب الكيان، والثاني: سلطة عباس الضالعة في قتل الفلسطينيين واعتقالهم وملاحقتهم وتسليمهم بدم بارد، ثم هي تغلق مكتب «الجزيرة» لتسير على نفس خطى الكيان في قتل القضية وتصفيتها لتكون ذراعاً أخرى ضد المقاومين والأبرياء وأصحاب الأرض على أرضهم.
والذي تابع الحديث القصير للأسيرة، ربما كان ليتعاطف معها كونها فتاة، وكونها بدت وكأنها طفلة خائفة -مع يقيني أن الملايين على مستوى العالم قد تعاطفوا معها كحالة إنسانية- إلا أن نفس المتابع إذا أنصف قليلاً ومد بصره للمشهد ككل، فسوف يرى جرائم لا يمكن أن تغفر أو تنسى، وأنه على الضفة الأخرى من الحدث مجازر سوف تظل عاراً على الإنسانية لن ينساها التاريخ لكل من شهدها، وتوانى في نصرة أهلها ولو بكلمة.
رسائل حية أشد ألماً على مدار الساعة
من المفارقات أنه في اليوم الذي نشر فيه الفيديو المثير للجدل لأسيرة الكيان وهو الأكثر تأثيراً منذ بداية الحرب، برأي المحللين، تعلن وزارة الصحة الفلسطينية عن استشهاد 60 فلسطينياً على الأقل في يوم واحد غير عشرات المصابين، بينهم أطفال ونساء بالطبع في غارات على قطاع غزة منذ فجر يوم السبت 4 يناير الجاري، وقد نقلت وسائل الإعلام مشاهد لأمهات يودعن أبناءهن ومنهن من كانت تودع وحيدها بنظرات مذهولة ترفض تصديق الخبر.
ولم يعد يقتل أطفال غزة رصاص الاحتلال وحده، وإنما صارت عوامل الموت كثيرة وأسبابه متعددة، منها التجمد بسبب البرد الشديد، وقد تابع العالم مشهد التوأمين منذ أيام وقد ماتا برداً وجوعاً ولم يبلغ عمرهما عشرة أيام! وقد شاهد العالم كذلك حال خيام غزة التي لا تستر من مطر ولا تحمي من برد ولا مكان فيها صالح لنوم طفل يستريح قليلاً قبل أن يهاجمه الموت في أي لحظة، يقول فيليب لازاريني، المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا): إن الأطفال في قطاع غزة يتجمدون حتى الموت بسبب الطقس البارد ونقص المأوى!
لقد قصفوا المدارس التي كانت تؤويهم، وقصفوا المستشفيات التي كانوا يحتمون بها، وقصفوا المساجد فلم يعد هناك جدار قائم يلوذ به إنسان أو حيوان، لقد كانت رسالة الأسيرة مؤلمة إنسانياً، لكن هناك مئات الرسائل اليومية التي تأتي عبر الفضائيات أكثر إيلاماً، وأكثر بشاعة، وأكثر حدة، ولا تتوقف ساعة من نهار أو ليل، تلك الرسائل الصارخة تقول: إن هناك شعباً يباد على مرأى ومسمع من العالم، وأن هناك أطباء يختطفون من مستشفياتهم ويعذبون، وأن هناك آلاف الفتيات مثل «ليري» لا ملاذ لهن ولا ستر ولا أمل في حياة حتى الصباح، وأن هناك آلاف العائلات لا يستطيعون التظاهر أو الاعتصام بساحة كنيست أو أمام بيت رئيس حكومة لحماية أبنائهم والعمل على عودتهم، فكل هؤلاء مشغولون في الخيمة لنزح مياه الأمطار بها، أو مشغولون بدفن ذويهم الذين تأكلهم الكلاب في شوارع غزة المنكوبة، أو مشغولون بحمل الأواني لالتماس بعض الوجبات الدافئة وغير الموجودة من الأساس يحملها الأطفال، فإما يعودون بها فارغة، أو لا يعودون مطلقاً.
إن العالم الذي تابع رسالة الأمس وتعاطف مع إحداهن، يجب عليه أن يسمع بأذن أخرى تلك الصيحات المؤلمة، وأن يرى بكلتي عينيه قبل أن تدفع البشرية كلها ثمناً فادحاً نتيجة لصمتها المخزي على ما يدور، لقد كانت حقاً رسالة مؤلمة إنسانياً، بل وكانت رسالة عبقرية لتضاف لعبقرية «القسام» في كل ما تقدمه، فهل تؤتي أكلها في وقف آلة الذبح العبثي وتعطي فرصة لشعب كامل أن يحزن كما يليق بالبشر ويلملم جراحاته ويدفن شهداءه؟ أم تمر كمثيلاتها من رسائل دون أن يصحو ضمير العالم الغافل؟