البحث العلمي هو العمود الفقري لنهضة أي مجتمع يتطلع إلى مستقبل مشرق، إنه القاطرة التي تقود التغيير، وتحرك عجلة التنمية، وتصوغ حاضر الأمة ومستقبلها، لكن بناء بنية تحتية قوية للنشاط البحثي ليس مجرد حلم، بل هو مشروع يتطلب رؤية واضحة، وعزيمة مجتمعية، وتكاملاً بين مختلف القطاعات، المجتمع الذي يضع البحث العلمي في قلب اهتماماته مجتمع يؤسس لنهضة شاملة تُعيد صياغة أولوياته وتُثري معارفه.
التهيئة النفسية والاجتماعية والعلمية هي الخطوة الأولى في هذه الرحلة، عندما تُغرس بذور حب المعرفة في الأطفال منذ نعومة أظفارهم، تنشأ أجيال تتنفس العلم وتطرح الأسئلة بحثًا عن الحقيقة، إن الفضول الطبيعي الذي يظهر عند الأطفال حين يسألون عن العالم من حولهم هو المفتاح الأول لتكوين عقلية بحثية، ومن هنا، تأتي أهمية دعم هذا الفضول بالمناهج التعليمية التي تحفز التفكير النقدي بدلاً من التلقين، وتُشجع التجريب بدلاً من الحفظ، كما أن المجتمع بأسره، بدءًا من الأسرة وانتهاءً بالمؤسسات العامة، يجب أن يتحمل مسؤولية دعم البحث العلمي كقيمة مشتركة تجمع الجميع.
البحث العلمي ليس مجرد نشاط أكاديمي، بل هو عادة يمكن أن تصبح جزءًا من تفاصيل حياتنا اليومية، تصور كيف كان العلماء المسلمون، كابن الهيثم والخوارزمي، يرون الظواهر اليومية فرصًا للتفكير والتحليل، لقد تعلموا من خلال الملاحظة، وطرح الأسئلة، وإجراء التجارب البسيطة، واليوم، يمكننا أن نستلهم من هؤلاء الرواد بتشجيع الأفراد على استخدام أدوات البحث البسيطة لتحليل حياتهم ومشكلاتهم اليومية، عندما تصبح هذه العادات جزءًا من حياة الناس، يمكن أن ينشأ مجتمع يقدر التفكير العلمي ويمارسه كجزء من ثقافته.
التعليم وصناعة النهضة.. المنهجية والقيم
الحضارة الإسلامية قدمت للعالم نموذجًا فريدًا في دعم البحث العلمي، بيت الحكمة في بغداد كان مثالاً رائعًا على التكامل بين الفكر والعمل، كان العلماء المسلمون، مثل ابن سينا، وابن النفيس، لا يكتفون بمجرد تأليف الكتب، بل كانوا يجربون ويبحثون ويبتكرون، هذه الروح البحثية جعلت من الحضارة الإسلامية منارة للعلم والمعرفة في وقت كانت فيه أجزاء أخرى من العالم تعيش في ظلمات الجهل، هذا النموذج التاريخي يجب أن يلهمنا اليوم لإعادة بناء منظوماتنا البحثية بنفس الروح والإرادة.
في العصر الحديث، أثبتت تجارب الدول أن الاستثمار في البحث العلمي يمكن أن يغير مصير أمة بأكملها، اليابان، على سبيل المثال، استطاعت أن تنهض من أنقاض الحرب العالمية الثانية بفضل استثمارها في التعليم والبحث، الجامعات اليابانية أصبحت مراكز ابتكار تربط بين الصناعة والأكاديميا؛ ما أدى إلى تطوير صناعات متقدمة وضعت اليابان في مقدمة الدول الصناعية، سنغافورة أيضًا، رغم صغر مساحتها، ركزت على البحث العلمي كركيزة أساسية لبنائها الوطني، مراكز الأبحاث مثل معهد العلوم والتكنولوجيا هناك أصبحت محركات للتطوير والابتكار، وأسهمت في تحويل اقتصادها إلى واحد من أكثر الاقتصادات تنافسية في العالم.
ولكن كيف يمكن للأمة أن تربط بين نتائج البحث العلمي في بلدانها المتعددة الأطراف؟ إن الإجابة تكمن في إدراك أن البحث العلمي ليس مجرد جهد محلي محدود التأثير، بل مشروع أمة بأكملها تسعى إلى التكامل والتواصل المعرفي بين أجزائها المختلفة، تمتلك الأمة الإسلامية مقومات هائلة من التنوع الجغرافي والثقافي والموارد البشرية والطبيعية؛ ما يجعلها مهيأة لبناء شبكة بحثية متكاملة، ولكن هذا يتطلب إرادة سياسية ووعيًا مجتمعيًا يعترف بأن التنمية المستدامة والتقدم الحضاري لن يتحققا إلا بتنسيق الجهود وتكاملها.
تخيل، على سبيل المثال، أن دولة مثل ماليزيا، التي تميزت في أبحاث الزراعة المستدامة، تتعاون مع دول في الشرق الأوسط تواجه تحديات ندرة المياه، يمكن لهذه الشراكة أن تسفر عن حلول مبتكرة لمشكلات الري والزراعة في بيئات قاسية؛ ما يساهم في تحقيق الأمن الغذائي، وبالمثل، يمكن لدول الخليج، التي تمتلك خبرات متقدمة في مجال الطاقة المتجددة، أن تنقل معرفتها التقنية إلى الدول الأفريقية لتطوير حلول طاقة نظيفة ومستدامة في القرى النائية، هذا التكامل لا يُعزز من الإنتاجية فقط، بل يرسخ الشعور بالوحدة والمصير المشترك.
التاريخ الإسلامي يقدم لنا دروسًا غنية في هذا السياق، في عصر الحضارة الإسلامية، كانت مراكز العلم منتشرة في بغداد ودمشق وقرطبة والقاهرة، لكنها لم تعمل بمعزل عن بعضها بعضاً، بل على العكس، كان هناك تواصل دائم بين العلماء والمراكز البحثية، المخطوطات تُترجم وتنتقل، والأفكار تُناقش بين الفقهاء والعلماء في مختلف الأقاليم، ولعل مثال بيت الحكمة في بغداد هو الأبرز، حيث كان العلماء المسلمون وغير المسلمين يتعاونون في ترجمة ونقل المعارف من مختلف الحضارات؛ ما جعل العالم الإسلامي في ذلك الوقت مركزًا للمعرفة العالمية.
في العصر الحديث، يمكن للأمة أن تستعيد هذا الإرث العلمي المشترك من خلال إنشاء منصات رقمية متقدمة تربط الجامعات والمراكز البحثية في جميع الدول الإسلامية، منصات كهذه يمكنها أن تُسهل تبادل البيانات والأبحاث، وتسمح بإجراء دراسات مشتركة حول التحديات الكبرى التي تواجه الأمة، مثل الأمن الغذائي، وإدارة المياه، والتغير المناخي، والصحة العامة، يمكن لهذه المنصات أن تكون بمثابة «بيت حكمة» رقمي حديث، يعزز التكامل البحثي بين مختلف الدول.
علاوة على ذلك، فإن إنشاء مؤسسات بحثية إقليمية مشتركة يمكن أن يكون خطوة مهمة نحو هذا الهدف، على سبيل المثال، يمكن لدول منظمة التعاون الإسلامي أن تُنشئ «المجلس الإسلامي للأبحاث المشتركة»، الذي يتولى تنسيق الجهود البحثية بين الدول الأعضاء، وتمويل المشاريع البحثية التي تخدم أهداف الأمة المشتركة، هذه المؤسسة يمكنها أن تجمع أفضل العقول في العالم الإسلامي للعمل على قضايا تمس حياة الملايين.
التمويل أيضًا يعد عاملاً رئيساً لتحقيق هذا الربط، يمكن إنشاء صندوق إسلامي لدعم البحث العلمي، حيث تساهم فيه الدول والمؤسسات الخيرية والأفراد من جميع أنحاء العالم الإسلامي، هذا الصندوق يمكن أن يُستخدم لتمويل الأبحاث المشتركة بين الجامعات والمراكز البحثية في مختلف البلدان؛ ما يضمن استمرارية هذه الجهود وتوسيع تأثيرها.
ولا يمكن أن نغفل أهمية التعاون الدولي مع بقية العالم، فالاستفادة من الخبرات العالمية والشراكات مع الجامعات والمؤسسات البحثية الكبرى يمكن أن تضيف قيمة هائلة لهذه الشبكة، في الوقت نفسه، يمكن للأمة أن تكون مساهِمة فعالة في المعرفة العالمية، من خلال تقديم حلول جديدة ومبتكرة للتحديات التي تواجه البشرية جمعاء.
النهضة البحثية لا يمكن أن تكون مسؤولية فردية أو قطاعية، إنها مشروع وطني يحتاج إلى تكامل بين قطاعات الدولة، التعليم هو الجذر الذي يُغذي هذه المنظومة، والجامعات يجب أن تكون مراكز بحثية تقود التغيير، الحكومة، بدورها، يجب أن توفر التمويل والتشريعات التي تحفز على الابتكار، أما القطاع الخاص، فيمكن أن يؤدي دورًا محوريًا من خلال تمويل الأبحاث التطبيقية وربطها باحتياجات السوق، كما أن التعاون الدولي يفتح أبوابًا جديدة للمعرفة والتطوير، الشراكات البحثية مع المؤسسات العالمية ليست مجرد فرصة لتبادل المعرفة، بل هي جسر للتواصل الإنساني وبناء المستقبل المشترك.
إن بناء بنية تحتية للنشاط البحثي استثمار طويل الأمد يحقق عوائد لا تُحصى، إنه السبيل لتحرير الطاقات الكامنة في المجتمع وتحويلها إلى إبداعات وابتكارات، وكما كانت الحضارة الإسلامية نموذجًا يُقتدى به في الماضي، يمكننا اليوم أن نصوغ نموذجًا جديدًا يجمع بين إرثنا الحضاري وأدوات العصر الحديث، إذا بدأنا هذه الرحلة بإرادة صادقة ورؤية واضحة، فإن البحث العلمي سيصبح ليس فقط جزءًا من خططنا التنموية، بل أسلوب حياة يشكل هوية مجتمعنا.