الفصل الثالث
قال الراوي:
واصلت شهر زاد حكاية الإسكافي معروف في الليلة الرابعة والثمانين بعد التسعمائة وفي الليالي التالية لها، فقالت:
لم يذهب عن معروف الروع وهو يسمع صوت الانفجار الذي هزّ أرجاء المكان، بل تضاعف وهو يرى جدارا ينقضّ، فظهر شخص طويل القامة تقشعر لرؤيته الأبدان، ومعه ما يشبه المركبة تمشي على ثلاث عجلات لم ير مثلها من قبل، ولها غطاء من الصاج وبها كرسي جلدي عريض في الخلف، وكرسي صغير في الأمام فوقه عجلة تحرّكها، وخلف العجلة واجهة زجاجية شفافة..
خاطبه الرجل مكشرا، قائلا له:
– لماذا أقلقتني يا رجل في هذا السكون؟ لي أكثر من مائتي عامٍ في هذا المكان ما أزعجني أحد إلا أنت! من تكون؟
– أنا معروف الإسكافي.
– لم أتيت إلى هنا؟
– زوجتي فتحية العرّة تطاردني بالأذى والسباب والضرب والشكوى إلى القضاة، والباب العالي.
– غريب أمرك يا ر جل! تهرب من امرأة؟ أين رجولتك؟
– أنها تشويني بلسانها وتفضحني بصراخها أمام الناس وبكائها أمام القضاة، وتستغل حبّي للسلام فتتمادى!
– وماذا تريد الآن؟
– أريد أن أهرب إلى بلاد بعيدة، لا تراني ولا أراها!
تأمّله بنظرة رثاء وعطف، وتأثّر كثيرا حين رأى ثيابه المبلولة في عز البرد، وقال له:
– إذا سأذهب بك إلى مكان بعيد لا تصل إليه زوجتك.
والتفت إليه، وأشار إلى المركبة آمرا:
– اركب في الخلف.
وركب هو في الكرسي الأمامي وأدار المركبة التي أصدرت ضجيجا رتيبا، وانطلق بسرعة عجيبة فقطع مسافات طويلة من عتمة العشاء حتى تباشير الفجر، وعلى أسوار مدينة هادئة هبط الرجل بمركبته فوق جبل عال، وقال لمعروف:
– أستودعك الله. في هذه المدينة لن تصل إليك زوجتك.
وقبل أن ينطلق سأله معروف:
– ما اسم هذه المركبة؟
– توك توك العفاريت!
شعر معروف بالحيرة. وتعجب من المركبة الصغيرة التي قطعت مسافة طويلة جدا، وتساءل عن اسمها العجيب: توك توك، ما معناه؟ ومن الذي صنعه؟ وهل لو امتلك مثله يمكن أن يسافر إلى بلدان أخرى لو لاحقته العرّة؟
كان يجلس فوق قمة الجبل، ولاحت طلائع النور، فاستعد للنزول إلى المدينة ليعرف أهلها وما فيها، ويعلم هل يستطيع أن يجد مكانا يمارس فيه صنعته بإصلاح الأحذية؟
المدينة جميلة، لها أسوار عالية، ومبانيها مشرقة وشوارعها نظيفة وبها قصور مشيدة وبيوت مزخرفة وهي نزهةٌ للناظرين وأهلها يبدو عليهم أثر النعمة والرخاء، فدخل من بابها فرآها تسرّ القلب الحزين، وشاهد في السوق أهل المدينة ينظرون إليه ويتفرجون عليه ويتعجبون من ملبسه الغريب الذي لا يشبه ملابسهم..
تقدم منه رجلٌ من أهل المدينة، وسأله:
– أنت غريبٌ؟
قال:
– بلى.
– من أي مدينةٍ؟
– مدينة المحروسة السعيدة.
– هل فارقتها من زمان؟
قال له:
– البارحة العصر.
فضحك الرجل وتعجب من كلامه، وقال للناس الذين تجمعوا ليشاهدوا منظره الغريب:
– تصوروا أنه يزعم أنه جاء من المحروسة السعيدة البارحة فقط، وبيننا وبينها مسافة سنة كاملة! هل تصدقون؟
ضحك الناس، وتساءلوا باستنكار:
– هذا كلام لا يقوله إلا مجنون!
– لست مجنونا. أنا صادق، ومعي خبز المحروسة لم يزل طرياً. انظروا ها هو .. فراحوا يتفرجون عليه ويتعجبون، لأنه لا يشبه خبز بلادهم، وقال بعضهم لبعض: هذا خبز المحروسة تفرّجوا عليه….
صار معروف مثيرا للاهتمام بعد أن تزاحم حوله عدد كبير من أهل المدينة. صدّقه ناس وكذّبه آخرون، فقد كان بحق مثيرا للجدل، ولكنه في داخله كان يشعر بالحيرة لأنه يفكّر في مكان يأوي إليه ويدبّر منه أمر معيشته، ووقف خائفا يترقب، فلمح رجلا يبدو من علية القوم يقتحم الزحام من حوله، ويقول له:
– إني أعرفك يا معروف. تعال معي.
أخذته الدهشة بعد الحيرة والخوف ولم يجد مفرا أن ينطلق مع الرجل!
– أين معروف؟ ألم تر زوجي؟
نظر الحلواني، جار معروف في الدكانة، وتأمل المرأة التي تبدو ملامحها منفّرة، فعرف أنها فتحية العرّة، فقال لها:
– لا أعلم!
– لقد غاب عن البيت منذ يومين!
– ودكانته مغلقة منذ يومين!
سمع الحدّاد الحوار بين الحلواني والعرّة ، فقال بصوت عال فيه سخرية واضحة:
– هرب. معروف هرب من ست الحسن والجمال، ولن يعود!
التفتت إلى الحدّاد وصوبت إليه نظرة حانقة تكاد تخترق قلبه، وحذّرته:
– احترم نفسك! أنا ست الستات غصبا عنك.
ردّ عليها الحدّاد وهو يدقّ مطرقته فوق السندان ليشكّل الحديد المتوهج بالنار، غير مبال بتحذيرها ولسانها الحاد:
– لقد خرج العصفور من القفص ولن يعود. خذي راحتك يا عرّة.
كادت المرأة أن تشتبك معه، لولا مرور شيخ الإسلام، وكانت قد تطايرت بعض جمل الحوار بينها وبين الحداد إلى سمعه فابتسم، واستغفر ربه وحوقل، وقال للمرأة مواسيا:
– لابد للغائب أن يعود.
فانبعثت تبكي وتفجّرت من عينيها دموع حقيقية لأول مرة، فتأثّر جيران معروف، ودعوا ربهم أن يعيده سالما. ولكن الحداد أبى إلا أن يذكّرها ببطر النعمة:
– كان يستدين ويأتي بالكنافة أم عسل قصب. تناولي الآن كنافة بعسل النحل ولا تذهبي للقاضي أو الباب العالي!
رمقته في غيظ، ومضت تمسح دموعها وتقول لنفسها: “أين أنت يا معروف؟”.
صحب الرجل الذي اخترق الزحام معروفا إلى دار واسعة مزخرفة، وأجلسه في مقعد ملوكي فاخر، وأمر العبيد ففتحوا له صندوقاً وأخرجوا له بدلة تاجرٍ فخمة وألبسه إياها فبدا معروف وجيهاً كأنه شاه بندر التجار، وزيادة في الحفاوة مُدّت سفرة عظيمة فيها جميع الأطعمة من سائر الألوان. قال الرجل لمعروف:
– أين الخبز الطري الذي جلبته معك من المحروسة السعيدة؟
أخرج معروف لفاقة ورقية، قائلا:
– ها هو الخبز ومعه الجبن.
– أحِنّ إلى خبز المحروسة، وكل ما فيها. اسمح لي أن آكل هذا الخبز والجبن، وأترك لك هذا السماط لتأكل ما تحب.
أكل الرجلان وشربا، ثم راح الرجل يسأل معروفا:
– إني أعرفك، وشكلك ليس غريبا عني.
– اسمي معروف وصنعتي إسكافي أرقع الزرابين القديمة. وملامحك مألوفة لديّ ولكني لا أعرف أين رأيتها؟
– في أي مكان نشأت يا معروف؟
فردّ عليه معروف بسؤال مشابه:
– هل تعرف المحروسة السعيدة؟
قال له:
– أنا من أولادها.
فقال معروف::
– أنا من الدرب الأحمر.
– إذا تعرف فلاناً وفلاناً، وعدّ له ناساً كثيرين من أهل الدرب؟
– نعم. أعرفهم جيدا. إنهم يقيمون في الشارع الكبير المؤدي إلى باب النصر.
فأردف الرجل:
– هل تعرف الشيخ أحمد العطار؟
– نعم، هو من الجيران الطيبين.
– هل هو بخير؟
– نعم، إنه بخير.
– ما فعل الله بأولاده؟
– مصطفى طيبٌ وهو عالمٌ ومدرسٌ، وأما محمد فإنه عطارٌ وقد فتح له دكانة بجنب دكانة أبيه بعد أن تزوج وولدت زوجته ولداً اسمه حسن.
ظهر الفرح على وجه الرجل وقال لمعروف:
– بشّرك الله بالخير.
فأكمل معروف:
– وأما علي فأنه كان رفيقي ونحن صغيران، وكنت دائماً ألعب أنا وإياه في شوارع الدرب كلها، وكنا نسرق بعض الكتب من أحد الوراقين ونبيعها ونشتري بثمنها حلوى، وذات يوم ضبطنا الورّاق ومعنا الكتب المسروقة، فذهب إلى الحاج أحمد العطار، وقال له: إذا لم تمنع ولدك من السرقة سأشكوك إلى الملك فطيّب خاطره، وضرب عليا علقة ساخنة، فهرب وغاب منذ عشرين عاما لا يعلم عنه أحد شيئا!
ضحك الرجل ضحكة مجلجلة دمعت عيناه بعدها، وبدا متأثرا، وراح يعانق معروفا ويبكي من شدة الفرح، ويقول له:
– أنا علي ابن الشيخ أحمد العطار يا معروف، وأنت رفيقي وصاحب الطفولة،
وبين دهشة معروف وفرحة على، راحا يسترجعان الماضي وأيام الشقاوة، ويحكي كل منهما ما جرى للآخر في فترة الغياب الطويلة، وكان الليل أوشك على المنتصف فرافق على صاحبه إلى إحدى غرف القصر لينام بعد رحلة عجيبة غريبة!
لأول مرة يشعر معروف بطعم الحياة الآخر بعيدا عن العرّة وأيامها السوداء ولسانها البذيء. سرير فخم كأنه مصنوع من الذهب. وسائد من ريش النعام، ملاءات تشبه الحرير، أغطية من الصوف لم يتغطّ بها من قبل. غرفة واسعة مزخرفة نظيفة، بها أرائك مريحة، ونمارق مصفوفة، فوق سجاد وثير من بلاد فارس وتركستان، ولا ترى في الغرفة أثرا لذرة من تراب، تعالي يا عرّة تفرّجي على العزّ والهناء. ابقيْ في غرفتك القذرة، وكلي كنافة بعسل النحل!
راح معروف يتذكر ما قاله له صاحب الطفولة الطائش على ابن الشيخ أحمد العطار. كان كلامه مثيرا ومدهشا. منذ السابعة من عمره وهو ينتقل من بلد إلى بلد حتى وصل هذه المدينة التي تسمى “كرَمستان”، أهلها كرام طيبون يشفقون على الفقراء والضعفاء، وملكهم رجل عادل متواضع يمشي في الأسواق، ويقدره الناس ويحبونه. أخبر على العطار أهل كرمستان أنه تاجر سبق القافلة بحثا عن مكان ينزل فيه مع تجارته، فصدقوه وأخلوا له مكاناً. ومنحوه ألف دينار قرضا حسنا حتى يرتب أمر قافلته. ومع أنه لم تكن هناك قافلة ولا تجارة، فقد ذهب إلى السوق واستخدم ذكاءه واشترى بضاعة باعها وربح منها، وكرر العملية ومع حسن تعامله وطيب معشره، وثق الناس به وأحبوه، واتسعت تجارته وكثر ماله، وردّ ما عليه شاكرا لمن أقرضوه. والغريب العجيب أنه يؤمن بمثل شعبي يقول: “الدنيا فشْر وحيلة، والبلاد التي لا يعرفك فيها أحدٌ مهما شئت فافعل فيها!”.
لقد حذّرعليّ معروفا أن يشير إلى شيء من سيرته السابقة أمام أهل كرمستان، فلا يتحدث عن الإسكافي الذي كان، ولا عن هربه من زوجته فتحية العرة، ولا يعيد عليهم أنه جاء من المحروسة السعيدة بالأمس على توك توك العفاريت، لأن ذلك سيقلل من شأنه وهيبته.
لا يعرف فيم يفكر على العطار الذي صار من كبار التجار في المدينة، ويسكن هذا القصر الفخم الذي يقوم على خدمته عشرات الخدم والجواري. ويمتلك عديدا من المحلات والمخازن في أرجاء المدينة الطيبة. وله مكانة كبيرة بين التجار والمسئولين والوزير والملك المعظم.
حين سأله معروف:
– ماذا يفعل؟
قال له:
– استرح أولا، وسأخبرك في وقت لاحق..
كان الجهد قد أضناه، وشعر بالخدر في الفراش الوثير، فثقلت عيناه، ولم يشعر بنفسه إلا وشمس الضحى تخترق بأشعتها الدافئة زجاج النافذة الكبيرة، وتملأ وجهه فاستيقظ منتعشا سعيدا، يسأل الله ألا تخطر العرّة على باله أبدا.
– أعطني لله!
وضع الرجل يده في جيبه وأخرج درهما، ووضعه في كفّ المرأة.
لم تقل للرجل شكرا، ولم تدع له، تدحرجت، وتوقفت أمام الفرن، وقالت للخباز:
– رغيف لله!
قال الخبّاز لصبيه:
– أعطها رغيفين من الخبز البايت!
كادت تسلقه بلسانها الزفر، ولكنها تذكرت أنها جائعة منذ يومين، وأن بطنها تقرقر، فمضت ذاهبة إلى البقال، وهتفت به:
– قطعة جبن لله!
عرفها الرجل، وتساءل متهكما:
– أين معروف؟ هل ذهب ليحضر الكنافة أم عسل النحل؟
امتقع وجهها وأوشكت على توجيه قذائفها إليه، ولكن الرجل كان يلف لها الجبن وبعض المخللات، ويقول لها: تفضلي يا ست! فأطبقت شفتيها، ومرّت على الحداد، الذي كان يغالب ضحكة في داخله، ويقول في سره، “حفظك الله يا معروف”، فنادى عليها، وأخرج من جيبه درهما وقال لها:
– معروف ترك لك هذا!
فاستغربت، ونظرت إليه بعينين دامعتين، ولم تعقب، وأخذت الدرهم، وانصرفت!
قال الحداد لنفسه: “سبحان مغير الأحوال. من كان يصدق أن العرّة تمسك لسانها؟” ثم أردف: “وقد خاب من افترى!”.
حين عاد على العطار إلى قصره، استفسر من معروف عن أحواله في الليلة التي قضاها، فأخبره الآخر أنه شعر بالراحة لأول مرة، وأنه يعجز عن شكره وردّ جميله، وتبادلا الثناء والتقدير، وحان وقت العمل.. قال علي:
– ستبقى بقية اليوم في القصر، تستريح وتستعد للعمل.
سأله معروف:
– كيف؟
– ستفعل مثلما عملت؟ ولكن بطريقة أخرى.
نظر إليه مستطلعا:
– سترتدي هذه الثياب الفخمة، وتركب البغلة، وسأهبك عبدا يتقدمك يأخذ بزمام البغلة عندما تركب وعندما تنزل، وسأقرضك ألف دينار توزع منها على الفقراء والسائلين. لا تردا أحدا منهم، وعندما تصل إلى السوق سأسارع إليك وأنحني أمامك وأقبل يدك، فيعلم التجار أنك تاجر كبير، وعندما يتحلق حولك التجار ويسألونك عن أصناف الأقمشة أيا كانت، فقل لهم: عندي منها كميات كثيرة، وسأفهمهم أنك تنتظر القافلة الكبيرة التي تحمل ألوان المنسوجات التي يتشوقون إليها.
تساءل معروف في دهش:
– ولكن كيف أردّ إليك هذا المال، وليست هناك قافلة؟
– لا تحمل هما. سأرتّب كل شيء. المهم أن تنفذ كلامي ولا تتصرف بعيدا عنه.
أذعن معروف لما قاله صاحبه، ولكنه في السوق وجد أمة من السائلين والفقراء التفوا حوله فأغدق عليهم حتى نفدت الألف دينار، وانبهر به التجار الكبار والصغار، وراحوا يسألونه عن القافلة وينتظرونها على أحر الجمر، وعند صلاة الظهر وجد جمعا من الفقراء يطلبون الصدقة، فوضع يده في جيبه ولم يخرج شيئا فمال على أحد التجار واقترض ألف دينار أخرى أنفقها عن آخرها، وعند العصر فعل الشيء نفسه، وهنا شعر على العطار أن صاحبه سيذهب به إلى كارثة لا يعلم كيف يتخلص منها. وحين سأله لم فعلت ذلك، رد عليه بغير مبالاة:
– يا علي: اسمع ما سمعته من شيخ الإسلام في المسجد عن بعض الحكماء، قال: “كَيْفَ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا مَنْ يَوْمُهُ يَهْدِمُ شَهْرَهُ، وَشَهْرُهُ يَهْدِمُ سَنَتَهُ، وَسَنَتُهُ تَهْدِمُ عُمْرَهُ؟”.
ذهل علىّ، وشعر أن الكارثة آتية لا محالة!
وقال له:
لقد فهمتَ الشيخ وفهمتني خطأ. إنك ستقذف بنا إلى هاوية!
يتبع….