البعض منا قد يعاني من استبداد السلوكيات الواجبة كما تسميها الطبيبة النفسية كارين.
إن تقييد أنفسنا بقائمة سلوكيات وممارسات غير مرنة تخص الطريقة التي يجب أن نتصرف بها مع أنفسنا والآخرين مضرة لنا ولاتزاننا النفسي.
إن تلك القائمة غير المرنة عادة ما نقوم بعد فترة باعتبارها قواعد صحيحة لا تقبل الجدل والنقاش، وإن أي انحراف عنها يعتبر خطأ فادحاً، فتكون هي الأساس الذي نعتمد عليه في التقييم والتحليل والانتقاد، وإن من لا يتبع تلك القواعد ولا يعمل على أساسها يعتبر بالنسبة لنا بأنه شخص لا يفكر ولا يتصرف بالشكل الصحيح وإن آراءه غير مقبولة.
إن نمطية التفكير بطريقة السلوك الواجب ضارة على تفكيرنا وعلى سلوكياتنا ولا بد من التخلص منها، لأنها قد تجعلنا نصاب بإدمان ترديد العبارات الدالة على الوجوب، كما يسميها المعالج ألبرت إليس.
إن استبداد «السلوكيات الواجبة» يعتبر من آفات تدمير المؤسسات، فالاستبداد صفة من صفات التسلط وفرض الرأي بالقوة، وهو قد يقتضي تكميم الأفواه، فلا تتحدث إلا في مجال محدود لا تسطيع تجاوزه وبطريقة معينة لا يمكنك تغييرها، إن استبداد «السلوكيات الواجبة» إذا أصبح جزءاً من ثقافة المؤسسة، فإنه يقتل ملكات الإبداع والإنتاج، ويعطل الطاقات.
إن المتأمل بحياة السلف الصالح والعلماء والأئمة الأخيار يعرف حجم النضج الذي يتمتعون به وتقبلهم لتنوع الآراء واختلافها، قال يونس الصدفي: ما رأيتُ أعقلَ من الشافعيِّ، ناظرتُه يومًا في مسألةٍ، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة(1)؟!
وعلَّق على هذه الحادثة الإمام الذهبيُّ بقوله: هذا يدلُّ على كمال عقل هذا الإمام، وفقهِ نفسه؛ فما زال النُّظراء يختلفون(2).
وها هو ذا الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور يريد أن يحمل الناس على كتاب «الموطأ» للإمام مالك بن أنس، ويوحدهم على رأي، فيقول له الإمام مالك: «لا تفعل! فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم ما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به، من قبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه وما اختار كل بلد لأنفسهم»، قال الحافظ ابن عبد البر القرطبي: وهذا غاية في الإنصاف لمن فهم.
ورحم الله الإمام الشاطبي، حيث يقول: فإن الله حكم بحكمته أن تكون فروع الملة قابلة للأنظار، ومجالاً للظنون، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف فيها، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات؛ فلذلك لا يضر هذا الاختلاف.
ختاماً، إن مصادرة آراء الآخرين، وغلق الأبواب في وجوههم؛ يجعل جذور الخطأ تمتد إلى الأعماق، ثم يصعب تصحيحها أو على الأقل تخفيفها؛ ولهذا فنحن نحتاج إلى ترويض ومتابعة لكي نتعلم كيف نقدر الرأي الآخر، وننجو من مصادرة عقول الآخرين، وهذا يتطلب منا عدة وسائل وممارسات منها فتح أبواب المشورة، والتراجع عن الخطأ، والتعلم منه كذلك، واتساع الصدر للرأي المخالف، وكل ذلك يتطلب منا سماحة في النفس وفهماً ووعياً في التفكير ونضجاً واتزاناً بالسلوك والممارسة، وقبل كل ذلك نيات صالحة نرجو فيها رضا الله تعالى عنا.
___________________
(1) سير أعلام النبلاء، ط الحديث (8/ 240)، ويُنظر: تاريخ دمشق، ابن عساكر (51/ 302).
(2) سير أعلام النبلاء، ط. الحديث (8/ 240)، ويُنظر: تاريخ دمشق، ابن عساكر (51/ 302).