كاتب المدونة: د. عصام إدريس (*)
في عصر تحتدم فيه المعركة بين الأصالة والانسياب عبر تيارات التقليد الحديثة، تتلاطم الأمواج حولنا لتترك الأجيال حائرة بين تقنيات العصر الحديث وتحديات الحياة اليومية، يبقى دور الآباء والأمهات في تربية الأبناء على قيم تطوير الذات واكتساب المهارات من أعظم المسؤوليات وأثقل الأمانات، ويتحتم علينا كآباء أن نفصل بين ما نشأنا عليه، وما ينبغي لأبنائنا أن يكتسبوه من خبرات تمكنهم من الخوض في مضمار الحياة سريع التغيّر.
وقد رُوِيَ عن الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: «علموا أولادكم ما لم تعلموا، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم»؛ إذ إن الفهم العميق لاحتياجات الأبناء وتوجيههم إلى السبل التي تضمن لهم مستقبلاً مشرقًا، يتناسب مع زمانهم؛ أمر جوهري في بناء مجتمع قوي قادر على مواكبة التغيرات العالمية.
وتحمل منظومة التربية بأقطابها المختلفة من آباء وأمهات ومعلمين مسؤولية توجيه الأبناء ومساعدتهم في تكوين بداية مفاهيمهم عن العالم من خلال التوجيه تارة، ومن خلال القدوة الحسنة تارة أخرى؛ ما يحتم عليهم تطوير مهاراتهم كمربين وتنمية قدراتهم والبحث عن وسائل اكتساب الخبرات الملائمة التي تصلح لكي تقودهم نحو صناعة أجيال بناءة، حيث لا يمكن اعتبار التربية مهمة سهلة، بل هي فن يتطلب الحكمة والدراية العميقة لتوجيه الأبناء نحو الأفضل، وهنا تبرز عدة تحديات قد تؤدي إلى أخطاء تربوية تؤثر على شخصية الأبناء في المستقبل، ومن أبرز هذه الأخطاء:
– الإفراط في الحماية: قد يظن الآباء أنهم بذلك يحمون أبناءهم من صدمات الحياة، إلا أن هذه الحماية المفرطة تعوق نموهم وتمنعهم من اكتساب المهارات الضرورية لمواجهة التحديات المستقبلية، وتحرمهم من بناء شخصيات مستقلة قادرة على تحمل مسؤولياتها بمفردها.
– التوقعات غير الواقعية: وضع الآباء توقعات كبيرة جداً للأبناء قد يؤدي إلى الضغط النفسي عليهم؛ ما يعوق تطورهم الطبيعي ويجعلهم يشعرون بالعجز أمام تحديات الحياة.
– الانشغال عن الأبناء: في زحمة الحياة العملية والضغوطات اليومية، فقد ينشغل الآباء عن أبنائهم ويغفلون عن منحهم الوقت الكافي للحديث أو التوجيه؛ ما يؤدي إلى تدهور العلاقة بينهم وغياب فرص التعليم والتوجيه.
– انعدام القدوة وفقدان النموذج الحي: فعندما يفتقد الأبناء إلى قدوة حية في حياتهم، تصبح القيم والمبادئ مجرد كلمات ترددها الألسن دون أن تجد طريقها إلى الفعل، إذا لا يمكننا أن نغفل تأثير الآباء في تكوين شخصيات أبنائهم وقد قيل في ذلك:
مشى الطاووس يوماً باختيال فقلد شكل مشيته بــــــنوه
فقال علام تختالون قــــــالوا كذاك فعلت ونحن مقلدوه
فخالف مشيك المعوج واعدل فإنك إن عدلت فنحن معدلوه
وينشأ ناشئ الفتيان فيــــــــنا على ما كان عوده أبــــــــوه
فإذا لم يكن الآباء قدوة لأبنائهم في تصرفاتهم اليومية، في مسعاهم لتطوير الذات، وفي تعاملهم مع الحياة، سيفقد الأبناء قوة تأثير القدوة، وينظرون إلى القيم على أنها مشاع يمكن التلاعب به.
ولكن، في بعض الأحيان، قد يتصور الآباء أن المثالية المطلقة هي السبيل الوحيد للقدوة الصالحة، فيفرطون في العناية بكل تفصيل صغير؛ ما يخلق حالة من الضغط النفسي على الأبناء، فتتحول القدوة إلى عبء ثقيل، الإفراط في تَوقع المثالية قد يؤدي إلى شعور الأبناء بالقيود المستمرة وعدم القدرة على التعبير عن أنفسهم بحرية، فالقدوة يجب أن تكون متوازنة، حيث يظهر الآباء لأبنائهم أن الخطأ جزء من الحياة، ويجب تعلم الدروس من الأخطاء بدلاً من الخوف منها.
التساهل في التدليل الزائد
يعتقد بعض الآباء أن تدليل أبنائهم بشكل مفرط هو الطريق الأمثل لجعلهم سعداء، فيوفرون لهم كل ما يطلبونه بلا حدود، وهذا يعزز فكرة «أنا الملك في هذا المنزل»، إلا أن هذا التدليل المفرط قد يؤدي إلى تكوين شخصية غير مستقلة، لا تعرف معنى الجهد أو التعب، فتخشى مواجهة التحديات أو التعامل مع الحياة الحقيقية خارج نطاق الراحة.
وعلى النقيض أيضاً، فقد يظن بعض الآباء أن فرض القسوة والتقشف هو الحل الأفضل، فَيُفرِطون في التشدد مع أبنائهم؛ ما يخلق شخصية قاسية، تفتقد القدرة على التعامل مع المشاعر والمرونة، والإفراط في هذا النوع من الحزم قد يحول المنزل إلى سجن نفسي لا يسمح بوجود التواصل العاطفي، وبذلك يكون بين الدلال الزائد والتشدد المفرط، طريق وسط، حيث يُمنح الأبناء الدعم والاهتمام، لكن مع ضرورة تعليمهم المسؤولية والاستقلالية.
انعدام الرقابة.. غياب التوجيه أم انعدام الثقة؟
عندما يتخلى الآباء عن رقابتهم على تصرفات أبنائهم، ظنًا منهم أن ذلك يعكس ثقة مفرطة فيهم، فإنهم يفتحون الباب أمام الأبناء للانزلاق في سلوكيات غير سليمة، فالرقابة ليست تقييدًا لحرية الأبناء، بل هي وسيلة لحمايتهم من الانحرافات، كما إن غياب الرقابة يجعل الأبناء عرضة للتأثيرات الخارجية السلبية، خاصة في هذا العصر الذي تزايدت فيه سبل الانفتاح نحو العالم بلا قيود.
إن عملية التربية تتطلب توازنًا دقيقًا بين الإفراط والتفريط، حيث يؤدي أي انحراف عن هذا التوازن إلى أخطاء قد تؤثر بشكل عميق في حياة الأبناء، يجب على الآباء أن يكونوا قدوة حية، غير مثالية لكن واقعية، وأن يراعوا احتياجات الأبناء في الاستقلالية بينما يقدمون لهم الدعم والرعاية، كما يجب أن يعرفوا متى يتدخلون ومتى يتركون المجال لأبنائهم لاكتساب المهارات الحياتية اللازمة.
إزاء كل ما سبق، يمكن للآباء أن يتجنبوا هذه الأخطاء، ويمكنهم أن يكونوا أكثر فاعلية في تنمية مهارات أبنائهم من خلال تبني التوجه الإيجابي في التربية الذي يمكن أن تمثل في:
– القدوة الحسنة: القدوة أبلغ من النصيحة، فأن يكون الآباء نموذجًا حيًا للمهارات التي يسعون إلى تعليمها لأبنائهم يمثل ذلك أمراً أساسياً، فالتعلم بالملاحظة هو إحدى أقوى وسائل التعلم.
– تشجيع الاستقلالية: على الآباء أن يفسحوا المجال لأبنائهم للقيام بالأمور بأنفسهم، حتى لو كان ذلك يعني ارتكاب بعض الأخطاء، فالخطأ ليس نهاية المطاف، بل بداية طريق التعلم والنمو.
– تعزيز الثقة بالنفس: كلما زادت الثقة التي يمنحها الآباء لأبنائهم؛ تحققت لديهم القدرة على مواجهة التحديات بثبات وإصرار.
– الاستماع والتوجيه: في ظل عالم مليء بالتحديات، لا يكفي أن نكون فقط مرشدين، بل يجب أن نكون مستمعين جيدين، لتتجلى لنا اهتمامات الأبناء وطموحاتهم؛ وبالتالي يمكننا مساعدتهم في اكتساب المهارات التي تنسجم مع هذه الطموحات.
وفي النهاية، فإن التربية لا تقتصر فقط على المهارات التقليدية التي نتعلمها في المدارس أو الحياة اليومية، بل يجب أن تشمل تطوير الذات، فكما أورد ستيفن كوفي، في كتابه «العادات السبع للأشخاص الأكثر فعالية»: «إن القوة الحقيقية تكمن في قدرتنا على التحكم في أنفسنا وتوجيه حياتنا»، من هنا تنبع أهمية غرس القيم المتعلقة بتطوير الذات في قلوب الأبناء منذ الصغر.
________________________
(*) دكتوراة في الإدارة التربوية.