ترى، ما حقيقة مفهوم «الشغف» الذي تفنى في مطاردته زهرة الشباب؟ ذلك النجم الذي ترنو له كل العيون ولا تكاد تبصر له نورًا!
بالرجوع لمعجم «لسان العرب»، تجد ما يلي في مادة «ش غ ف»:
– الشَّغَافُ: غِلَافُ الْقَلْبِ وغِشاؤُه وَسُوَيْدَاؤُهُ (وصَميمُه).
– شَغَفَهُ الْحُبُّ يَشْغَفُهُ شَغْفًا وَشَغَفًا: وَصَلَ إِلَى شِغَافِ قَلْبِهِ (ومَلَكَه عليه).
– الشَّغَفُ: أَنْ يَبْلُغَ الْحُبُّ شَغَافَ الْقَلْبِ.
– شُغِفَ بِالشَّيْءِ: أُولِعَ بِهِ وأُغرِيَ وأُغرِم (وفي مادة وَلِع: الوَلَع شِبْهُ الْجُنُونِ).
– شَغِفَ بِالشَّيْءِ شَغَفًا: قَلِقَ.
إن التفكر في دلالات هذه التعريفات اللغوية للفظة «الشغف»، لا يوحي بنوع محبّة سَوِيٍّ أو محمودِ العواقب على الدوام، كما يروّج لذلك التصوير الجماليّ السائد لمفهوم الشغف في المواد التنموية، وحتى تعريفه اللغوي بالإنجليزية «Passion» وفقًا لقاموس كامبريدج، يفيد: مشاعر طاغية Very Powerful Emotions، حُبًّا أو بُغضًا أو غضبًا أو شهوة، أو غيرها من المشاعر؛ أو هو اهتمام مُفرِط Extreme Interest بنشاط أو عمل أو هواية ما. ومن الصفات المصاحبة لهذه اللفظة في الإنجليزية عادة صفة (Consuming)، وتعني الاستغراق لحدّ الاستنزاف والاستهلاك لحدّ الإفناء أحيانًا: He has a consuming passion for sports. ومن الصفات المصاحبة الأخرى (وتشابه السابقة في إيحاءاتهـــا): أعمى Blind، عاتٍ Fierce، ناري Fiery، شديد Intense.
فإذا جئتَ تتأمل في دلالاته الترويجيّة في المواد التنموية، لا تقف له على حدود تعريف أو معايير، بقدر ما تشعر حوله بهالة فخامة، تنتابك تجاهها حالة من الانبهار! فهو تارة هبة لفئة محظوظة من البشر تعرف يقينًا منذ ولادتها مساراتها المستقبلية الغيبية! وتارة هو اكتشاف ذاتي مخبوء في مجاهل العمر، نعثر عليه ذات مرة إذا كنا محظوظين كفاية! وحينًا هو حياة الحب الذي يدفع لحب الحياة: بالعمل فيما تحب والتعامل مع من تحب، والإلقاء بخلاف ذلك من نافذة الوجود!
ومؤخّرًا صار الشغف مرادفًا لحالة ميل المزاج لشيء ما، أحيانًا بتثبيت الميل في المعادلة تجاه شيء معيّن ليصير هو شغفك، وأحيانًا بتثبيت المزاج فوقتما راقك شيء صار شغفك، ولا إشكال أن يتغير الشغف كل ساعة طالما أنك تعيش حالة الشغف ومزاجك رائق!
وهكذا غدا العثور المحظوظ على ما تُحب هو الكنز المنشود لكلّ مُحِبّ، ليختصر عليه طريق الجِدّ والصبر على ما لا يَروقُه، ويحرّره من أغلال الواجبات والمسؤوليات التي لا يستلطفها، وصار الاشتغال فيما تهوى مرادفًا لإبادة الملل والسأم من قاموس حياتك، لأنك ستكون مَحمولًا بطبيعة الحال على أجنحة المتعة والمزاج على الدوام! فلا عجب أن انقلب ذلك البريق الهلاميّ لتجارة نفسية رائجة، تزيد من آفات وَهْن العزائم ودُنوّ الهِمَم وطول الأَمَل وضعف الصبر، ثم يأتي الترقيع الإسلامي الأنيق لمفهوم الشغف ولواحقه على أنه مراد الله تعالى منك أو رسالتك المخصوصة في الحياة، وكأنّ ذلك الترقيع نفى جوهر الإشكال!
وجوهر الإشكال هو في تضخيم حالة حضور المزاج والهوى واتقاد الحماسة.. من اعتبارات مؤثّرة أثناء الحركة، إلى الاعتبارات الحاكمة (بالألف واللام) على الحركة بلا منازع أبدًا، أو غالبًا من باب الاحتراز! فلن تعيش إلا حياة واحدة كما يقولون (والأصل أنهما حياتان)، فعليك بما يُمليه عليك مزاجك وما يثير شغفك وما تهواه نفسك، وما سوى ذلك فألْقِه وراء ظهرك ولا تأبه.
ويترتب على تأليه تلك القيم، أن يعيش غير الواجد لشغفه في وضعيّة تشغيل مؤقت مزعزع أو انتظار دائم متوتر، مترقّبًا لحظة عثوره على ذلك الكنز أو هبوطه من السماء في حِجره لـيبدأ حياته! فلا يعنيه كثيرًا ما ورد في فضائل الأعمال البديهية والمعروف السهل الذي يحسنه أي أحد، كإغاثة مكروب أو تبسّم في وجه أو معاونة الأهل أو استكثار من نَفلٍ وقت قوة ونشاط، تلك الأعمال الصغيرة لا وجود لها في قاموسه الساطع الملتفت للمراد الأكبر والشغف المبهر! وتجده مثلًا لا يعرف بعد ما التخصص العلمي الذي يثير شغفه أو المجال الذي سَيَودّ العمل فيه مستقبلًا، وبسبب ذلك، يهمل حاضرًا الموادّ العلمية المتعيّن عليه دراستها جملة، أو المعارف الأساسيّة التي يلزم كلّ ذي عقل تحصيلها من دين ولغة وثقافة. فتنقضي سنوات عمره سواء في النظام التعليمي أو خارجه بغير أن يكون حصَّل أي علم حقيقي أو اكتسب أي مهارة نافعة مما كان متاحًا بالفعل، لأنه لم يكن يحمل مُلصَق الشغف المُعَنوَن باسمه!
وهكذا تجرّ حالة الانتظار تلك صاحبها للاستهانة والتفريط في المسؤوليات الأساسية الواضحة، لشدة تَلَهّيه بتصيُّد ذلك المجهول، وليته على ذلك يحاول تصيّده فعليًّا بأي بادرة جادة، بل يكتفي بالاكتئاب والانتظار والتضييع للواضح بالفعل، فيجمع السَّوْأتَيْن؛ سوء فهمه لجانب، وسوء تفريطه في كلّ الجوانب الأخرى التي فهمها! ومن كانت يده صفرًا من الحاضر كيف يطمع أن يبني عليه يومًا ما مستقبلًا؟! ومن لم يجرّب في حياته شيًئا وهو جادّ كفاية في التعرف عليه، كيف سيقف على مناط شغفه أو ميل نفسه من عدمها؟! ولا حاجة للتذكير بحقيقة أن معرفة ميل النفس، فرع عن معرفة ذات النفس، لكن صاحب الشغف في شغل عن كلّ الحلول المطروحة، بـالانطراح تحت حالة التنقيب عن الشغف!