إن البحث عن الإنسان في التصور القرآني يدفع بلا شك إلى تتبع كلمة الإنسان التي وردت عشرات المرات في مواضع مختلفة من آيات الذكر الحكيم، بل وخُصصت سورة كاملة باسم «الإنسان» كدلالة مهمة على محورية المفهوم الإنساني في تناول القرآن لذلك الكائن المتفرد والمركب، ومدى تعاطي الوحي مع تلك الطبيعة البشرية، والإرشاد الإلهي لذلك الإنسان في ضوء صفاته البشرية لتعظيم الاستفادة من مكامن قوته وتجاوز القصور والضعف والتغلب عليهما، وكيف لا والخالق هو الأعلم بذلك الإنسان والأكثر قدرة على توجيهه إلى صلاحه وسعادته.
التكريم والتكليف
وقد جاء الظهور الإنساني الأول في القرآن الكريم بشكل غير مباشر حين أشارت الآية الثلاثون إلى قصة التكريم الإلهي للإنسان بإخباره سبحانه للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، ففي تلك الآية يعلن القرآن الكريم الإنسان خليفة في الأرض، حيث تم تكريمه بذلك التكليف والتشريف بعمارة الكون وعبادة الله، وذلك إعمالاً للإرادة الإلهية التي رأت في ذلك الإنسان أهلية واستطاعة لذلك رغم تشكك الملائكة، وهو ما يؤسس للرؤية القرآنية للإنسان ككائن مكرم ومكلف في الآن نفسه، يحمل في نفسه مقومات أداء تلك الأمانة ومثبطاتها أيضاً، كما أشار الهدي القرآني: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس).
الإنسان ونقائصه
ورغم التكريم الذي رفع مرتبة الإنسان ليصبح سيداً للكون، فإن كلمة الإنسان التي وردت ما يربو على السبعين مرة في القرآن الكريم بلفظها، قد جاءت في أغلب الأحيان في معرض التذكير بنقائص الإنسان وذم صفاته السيئة المتأصلة فيه، فهو ضعيف: (وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28)، وهو عاجز عن شكر النعم الإلهية وإيفائها حقها: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم: 34)، كما أن هذا الإنسان يسارع إلى اليأس من رحمة الله: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ) (هود: 9).
وعن ذلك التركيز القرآني على الصفات الإنسانية السلبية يقول العقاد: إن تلك المذمات هي في معرض التأكيد على أن الإنسان باعتباره مكلفاً فإنه أهل للنقص وللكمال في الوقت نفسه، ولكنه ينفرد بين الخلائق بمساوئ لا يُوصف بها غيره؛ لأن السيئة والحسنة -على السواء- لا يُوصف بها مخلوق غير مسؤول، فهذا المخلوق المسؤول يُوصف دون غيره من الخلائق بالكفر والظلم والطغيان والخسران والفجور والكنود؛ لأنه دون غيره أهل للإيمان والعدل والرجحان والعفاف، وهو وصف الاستعداد الذي يجعله أهلًا للترقي إلى أحسن تقويم، وأهلًا للتدهور إلى أسفل سافلين.
مكامن النقص
وانطلاقاً من تلك الرؤية القرآنية، فقد ابتغى الهدي القرآني من إيراد السمات الإنسانية اللصيقة بطبيعته الناقصة التذكير الدائم للمؤمنين بمكامن الضعف البشري لتحذير المؤمنين من الوقوع في أسرها، وبتتبع التناول القرآني لتلك الصفات نجدها قد ركزت على الآتي:
– «الضعف»: ورد الضعف لتذكير الإنسان بحاجته إلى الهدي والإرشاد الإلهي والتسليم لتشريعاته المنزلة للوصول إلى كماله الفردي والجماعي، وسعادته في الدنيا والآخرة، وهي إشارة إلهية مهمة إلى ضعف الإنسان في مقابل الرحمة الإلهية والغفران الذي يتجاوز عن وقوع الإنسان نتيجة ضعفه البشري في الزلل.
– «الكفر واليأس»؛ باعتبارهما ظاهرتين مترابطتين تؤدي إحداهما للأخرى، إذ يعد الكفر يأساً من رحمة الله وجحوداً لنعمه وفضله على عباده، و«الظلم» كظاهرة فردية واجتماعية تؤدي إلى افتئات الإنسان على حق نفسه بارتكاب الآثام والذنوب وحقوق الآخرين بانتهاك حقوقهم.
– «العجلة»: تناول التصور القرآني نزوع الإنسان إلى الاستعجال في إدراك النتائج وبلوغ المآرب مراراً وتكراراً، وذلك لترسيخ فكرة اليقين والاطمئنان في نفوس المؤمنين وتنبيههم إلى طبيعتهم الإنسانية الناقصة التي تدفع كثيراً من الناس نحو اليأس نتيجة العجلة، وهو تذكير دائم بيوم الحساب الذي أرجأ إليه القرآن في كثير من مواضعه إنفاذ العدالة الإلهية، بينما كثير من الناس قد يدفعهم تأخير العقوبة إلى التمادي في الإثم: (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) (الحديد: 16).
ملامح التصور القرآني للإنسان
ومن ناحية ثانية، أورد القرآن تصوراً إنسانياً يتكئ على عدد من الملامح الرئيسة، رغبة في ترسيخ تلك الملامح وتوظيفها في هداية الإنسان عبر تذكيره بطبائعه ونقائصه، وتمحورت تلك الملامح القرآنية عن الإنسان في 3 مبادئ رئيسة:
– التأكيد على النقص الإنساني: ينطلق التصور القرآني للإنسان من مبدأ أساسي مفاده: (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ {2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر)، وهذا المبدأ يبتغي التأكيد على أن النقص الإنساني لا فكاك منه سوى باتباع الهدي الإلهي وتنفيذ أوامره والامتناع عن نواهيه، ذلك أن الخالق جل شأنه قد وضع شريعته بما يلائم النقص الإنساني وبما يصلحه على وجهه الأمثل، ومن ثم لا مناص عن الخسران إذا ما اختار الإنسان طريقاً آخر.
– التذكير بخلق الإنسان: وتماشياً مع المبدأ السالف ذكره، فإن التأكيد على نقص الإنسان تطلب تذكيراً متكرراً في غير موضع بقصة خلق الإنسان وتكوينه وتسويته بأمر إلهي مباشر للنظر والتأمل في الخلق الإنساني: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ) (الطارق: 5)، وقد جاءت الإجابات القرآنية في مواضع عدة تؤكد أصل الخلق الإنساني، فهو مخلوق من طين وفي موضع آخر من صلصال من حمأ مسنون، وفي موضع ثالث من نطفة، وفي موضع رابع من صلصال كالفخار، وغيرها من الآيات التي ابتغت تثبيت القدرة الإلهية على الإنسان والإخبار بطبيعة خلقه وما يشوبها من نقص وضعف.
ترسيخ مبدأ الجزاء العادل: اهتم التصور القرآني في معرض تتبع النقص الإنساني إلى ترسيخ مبدأ العدالة الإلهية التي تدرك هذا الضعف وتتجاوز عن زلاته وترسي مبدأ الثواب والعقاب، وفي ذلك أكد القرآن (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى {39} وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى {40} ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى) (النجم)، فرغم تكرر الذم القرآني لنقائص البشر، فإنه في المقابل قد أكد بأن تلك النقائص ليست عائقاً أمام المؤمنين والمحسنين من أن يحظوا بثواب عادل عن أفعالهم الحسنة، فهذا النقص الإنساني في التصور القرآني ليس وصماً للطبيعة الإنسانية، بل تأكيداً على أن هذا الكائن الناقص قادر بما جبله الله عليه من أن يرقى إلى أعلى المراتب الإيمانية والروحانية، وأنه مثاب عليه خير الجزاء.
وأخيراً، فإن التصور القرآني قد اهتم بتذكير الإنسان بنقائصه ومذماته بقدر ما اهتم بإبراز العدل الإلهي والقدرة الربانية في خلق هذا الإنسان، بالإضافة إلى الربط فيما بين تلك الطبيعة الإنسانية وتكريم الإنسان ككائن متفرد في الكون رغم طبيعته الزاخرة بالضعف والفساد، فإنه طبقاً للتصور القرآني قادر على حمل التكليف الإلهي بتعمير الأرض وعبادة الله، تلك المكانة التي جعلته خليفة في الأرض ورفعت قدره فوق سائر الكائنات، وهو وإن تمكن من السمو فوق طبيعته باتباع الهدي القرآني يكون قادراً على وفاء الأمانة التي حملها فيرتقي بالهدي الإلهي إلى مصاف الملائكة بينما يهوى إلى الدرك الأسفل إذا ما ركن إلى طبيعته الإنسانية القاصرة.