الأصل في تلك الحياة الدنيا الصراع بين البشر، وهذا منذ أن أُهبط آدم إلى الأرض وقال له ربه جل جلاله: (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (البقرة: 36)، وهذا الصراع يشمل كل الطبقات والمستويات من الأفراد والمجتمعات والشعوب والأمم.
ولما كان هذا طبعًا متأصلاً فيهم، فرض الله الأشهر الحرم لوقف القتال، وعظَّم إثم من يلغ في الدماء ولا يتوقف في هذه الأشهر؛ لعلها بضبط النفس في تلك الأشهر تتمكن من الاستمرار على ذلك طيلة أيامها.
وعندما التقى موسى بالخضِر عليهما السلام وسلَّم عليه ردَّ عليه قائلاً: «وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلاَمُ»(1).
فطالب السلام الدائم في الأرض كطالب الماء من السراب؛ فكلما تراءى له الماء ووصل إليه فإنه لن يجده مهما جد واجتهد، والسلام الحقيقي والدائم سيكون في الآخرة؛ لذا سمى الله الجنة دار السلام التي وعد عباده المؤمنين بها فقال: (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (الأنعام: 127).
وأعظم تجليات هذا الصراع يكون في الحروب وسفك الدماء، وفي زمن الحروب لا تتوقف الحياة مهما كانت المآسي والمصائب؛ فالإنسان مجبول على حب الحياة والتشبث بها ولو في أحلك الظروف، واليأس منها وتمني الموت هو الأمر العارض، قال النبي ﷺ: «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَتَشِبُّ مِنْهُ اثْنَتَانِ: الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ»(2).
وعند تحوُّل المسلمين من زمن الاستضعاف إلى زمن الابتداء في تأسيس الدولة بعد هجرتهم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة لم تكن البداية سهلة، بل كان فيها الخوف ممتزجًا بالحذر والحيطة واليقظة، وقد وصف لنا أُبي بن كعب رضي الله عنه تلك الحالة فقال: لما قدم رسول الله ﷺ وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، كانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟!
فنزلت: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) إلى (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ)؛ يعني: بالنعمة (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55)(3).
ورغم تلك الحال مارس المسلمون حياتهم الطبيعية، وعلى رأسهم النبي ﷺ وآل بيته الأطهار؛ فقد تزوج عليٌّ فاطمةَ في رجب سنة مقدمهم المدينة، وبني بها مرجعه من «بدر»، ولها يومئذ ثماني عشرة سنة(4)؛ أي أنه عقد عليها في ذلك الوقت المشحون بالترقب والحذر في تلك البيئة الجديدة التي يتربص بها الأعداء الدوائر، والذين يحيطون بها.
وقد يقول قائل: إن المسلمين بهجرتهم واجتماعهم في مكان واحد قد أعطوا الفرصة لعدوهم ليتخلص منهم مرة واحدة، لا سيما وأنهم أشبه ما يكونون كجزيرة وسط بحر متلاطم يمكنه أن يبتلعها، لكنهم نجحوا في أول اختبار حقيقي في الحروب التي يخوضونها أول مرة في حياتهم تحت ظل الإسلام، فقد انتصروا في غزوة «بدر» الكبرى، واقتسموا الغنائم، لكنهم لم يضعوا أسلحتهم؛ إذ كثرت التحركات العسكرية ما بين «بدر»، و«أحد».
وبوجود الغنائم تتسارع الخطى نحو الزواج، وتكوين الأسر؛ وقد ترتب على نصر «بدر» أن امتلك سيدنا عليٌّ ناقتين كبيرتين؛ فيقول: أَصَبْتُ شَارِفًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي مَغْنَمٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَعْطَانِي شَارِفًا أُخْرَى، فَأَنَخْتُهُمَا يَوْمًا عِنْدَ بَابِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهِمَا إِذْخِرًا لأَبِيعَهُ، وَمَعِي صَائِغٌ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَأَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى وَلِيمَةِ فَاطِمَةَ، فهاتان الناقتان كانتا وسيلته للتكسب والارتزاق الذي به يتمكن من الزواج.
لكن عمه حمزة في لحظة سُكر قبل تحريم الخمر أضاع هذا الحلم؛ إذ أقدم على جَبِّ أَسْنِمَتِهِمَا، وَبَقْر خَوَاصِرَهُمَا، وأَخْذ أَكْبَادِهِمَا، وكان هذا المنظر فظيعًا، ومثَّل صدمة لسيدنا عليٍّ، فما كان منه إلا أن اشتكى لرسول الله ﷺ، والذي بدوره دَخَلَ عَلَى حَمْزَةَ فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ(5).
وفي زمن الحروب يكون رأسمال المحارب سلاحه، وليس المال أو العقار أو الأطيان، فسلاحه هو أغلى ما يملك، ورغم ذلك دفع سيدنا عليٌّ درعه مهرًا للسيدة فاطمة عليها السلام، فقد قال له ﷺ: «هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تَسْتَحِلُّهَا بِهِ؟».
فقَالَ له سيدنا عليٌّ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَمَا فَعَلَتِ الدِّرْعُ الَّتِي كُنْتُ سَلَّحْتُكَهَا؟»، قَالَ عَلِىٌّ: وَاللَّهِ إِنَّهَا لَدِرْعٌ حُطَمِيَّةٌ(6) مَا ثَمَنُهَا إِلاَّ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، قَالَ: «اذْهَبْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، وَابْعَثْ بِهَا إِلَيْهَا فَاسْتَحِلَّهَا بِهِ»(7).
فمهور زمن الحروب هي الأسلحة إن عدمنا غيرها، وهي التي تحمي الحياة؛ فيكون الأولى بها الأنثى التي هي رمز للحياة، وإذا كان السلاح هو شرف المحارب فهو يسلمه طائعًا مختارًا لزوجه، كما أنها تسلمه شرفها طائعة مختارة راضية راغبة.
وفي زمن الحروب يتخفف الإنسان من تكاليف الحياة وأعبائها؛ فيلتزم الأساسيات والضروريات، ويترك الكماليات والرفاهيات، بل إن بعض الضروريات يعدها في ذلك الزمن رفاهية.
وقد عاون الرسول ﷺ العروسين ببعض الجهاز، الذي كان بسيطًا؛ فقد بعث ﷺ معها بخميلة، وقِربة، ووسادة أدم حشوها ليف الإذخر، ورحيين، وجرتين(8)، وكان يجلسان على جلد كبش(9)؛ فلا بُسُط أو نمارق، أو حصير، ولا خادم يخدمهما، أو يقوم على شؤونهما، بل هما اللذان تكفلا بالعمل.
وقد كانت السيدة فاطمة الزهراء في خدمة أم زوجها سيدتنا فاطمة بنت أسد بن هاشم؛ فقد تقاسم سيدنا عليّ مع زوجه الأعمال؛ فهو يكفيها الخدمة خارجًا، وهي تكفيه وأمه العمل في البيت من العجن والخبز والطحن(10).
هذا البيت النبوي كان نموذجًا على سائر بيوت المسلمين في الزمن الأول لتلك الأمة الناشئة، ولم يختلف عن سائر البيوتات في زمن الحروب أو في زمن السلم.
____________________
(1) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في العلم، باب: مَا يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَيَكِلُ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ، ح(122) من حديث أبي بن كعب.
(2) أخرجه مسلم في الزكاة، باب: كَرَاهَةِ الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا، ح(1047) من حديث أنس.
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك، ح(3512) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(4) الإصابة لابن حجر، (8/ 55).
(5) راجع الحديث الذي أخرجه البخاري في المساقاة، باب: بَيْعِ الْحَطَبِ وَالْكَلأ، ح(2375).
(6) الحُطَمِيَّةُ: هي التي تَحْطِمُ السيوف، أي: تكسرها، وقيل: هي العريضة الثقيلة، وقيل: هي منسوبة إلى بطْنٍ من عبد القيس يقال لهم: حُطَمَةُ بنُ محاربٍ كانوا يعملون الدروع [لسان العرب، (12/ 137)).
(7) سنن البيهقي الكبرى، (7/ 234).
(8) انظر: مسند أحمد، ح(643)، و(819)، وقوى الأرنؤوط إسنادهما.
(9) مصنف ابن أبي شيبة، (8/ 156).
(10) انظر: سير أعلام النبلاء، (2/ 125).