خص الله تعالى الأم بالذكر في الكتاب الحكيم في مواضع عدة، وقرن ذكرها بذكره وشكرها بشكره؛ فقال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان: 14)، وفي هذا دلالة على عظم الأمومة وأنها ليست كسائر العلاقات الإنسانية.
والأمومة مشتقة من الأم، وأُم كل شيء أصله وعماده، والأم هي المسكن ومنه قوله: (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) (القارعة: 9)، وهي القصد، يُقال: أمّه يؤمّه أمّاً؛ أي قصده.
ولفظ الأم ورد في القرآن الكريم 28 مرة في صيغتي المفرد والجمع، والاستعمال القرآني لها يدور حول ثلاثة أوجه، هي: الوالدة أي من أنجبت، والمرضعة، وأمهات المؤمنين، وعادة ما يرد متصلاً بحقل من المفردات التي تبين طبيعة الأمومة وخصائصها البيولوجية والمعنوية.
ومن هذه المفردات الحمل الذي يشير إلى الوظيفة الحيوية للأم وهي الإنجاب، والقرآن يصور ببراعة ما تقاسيه المرأة جسدياً ومعنوياً خلال الحمل بقوله: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ)، وقوله: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) (الأحقاف: 15)، ويشير سبحانه إلى أن عملية الحمل سر من أسراره التي لا دخل لإنسان ما كان بها؛ (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) (فاطر: 11)، كما يشير إلى انتهاء الحمل والمعاناة التي تكابدها المرأة خلاله، مستعملاً في ذلك لفظ الوضع ولفظ المخاض.
ومنها الأرحام، وهي لفظة قرآنية تعبر احتواء الأجنة داخل جسد الأم وهي أساس القرابات والعلاقات الإنسانية كلها، ومن عظم شأنها قرن الله تقواه بتقوى الأرحام؛ (وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ) (النساء: 1)، وقريب منه لفظ البطون الذي يرد عادة مقترناً بالأم كما في قوله تعالى: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ) (الزمر: 6)، وقوله: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً) (النحل: 78).
ومنها الرضاعة، وهي مفردة وثيقة الصلة بالأمومة، وتأتي في الاستعمال القرآني بصيغتي المصدر والفعل، ولذلك لأهميتها في بناء الإنسان ولما يترتب عليها من أحكام، ومن ذلك قوله: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ) (النساء: 23)، وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) (القصص: 7)، ويتبع الحمل الفطام، والقرآن يشير إليه في موضعين اثنين؛ (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) باعتباره عملية منفصلة متمة لمرحلة الرضاعة.
وهذه السلسلة من المفردات تشكل حقلاً مفاهيمياً متصل الحلقات تتموضع خلاله الأمومة، وهي توحي بأن عملية إيجاد الإنسان أو بعبارة أدق تجسيد الأمر الإلهي بالخلق هي أعظم وظائف الأنثى، وليست عملية شائنة أو ثانوية لا أهمية لها ولا اعتبار كما تصورها النظرية النسوية وعلم الاجتماع الغربي.
والقرآن لا يتوقف عند الأبعاد البيولوجية للأمومة، وإنما يصور أبعادها المعنوية في آيات كثيرة، ومنها قوله: (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) (القصص: 7)، والخشية على الأبناء الملمح الرئيس للأمومة، ويعززه قوله: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً) (القصص: 10)؛ أي أصبح فؤادها صفراً لما اعتراها من خوف على وليدها، ومنها عدم الإضرار بالوليد، ومن ذلك قوله سبحانه: (لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) (البقرة: 233)، وقيل في تفسيرها: لا ينزع الرجل ولده من امرأته فيعطيه غيرها.
وتفرض الأمومة حقوقاً على المرأة، وتضع عليها واجبات معينة، وأما حقوقها التي تحدث عنها القرآن فهي:
– الإحسان: أمر الله تعالى بالإحسان إلى الوالدين، والإحسان إليهما هو إحسان مطلق لا يقيده قيد أو شرط حتى الكفر، فالإنسان مأمور بالإحسان إلى والديه وإن كانا كافرين؛ لقوله تعالى: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) (لقمان: 15)، والإحسان إلى الأم يتقدم الإحسان إلى الأب، إذ أشار سبحانه إلى تعبها واستوصى بها مرتين؛ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)، وفي الأخرى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) (الأحقاف: 15).
– التأدب في القول: الإنسان مأمور بالتأدب مع والديه، وأن يخاطبهما بجميل القول لا بفاحشه؛ مصداقاً لقوله: (وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) (الإسراء: 23)، وفيه نهي مضمر عن أن يؤذيهما بالقول أو يوحشهما بطول السكوت، فليس له أن يتركهما وشأنهما، بل عليه مجالستهما ومحادثتهما بلطف.
– خفض الجناح: وهو كما يصفه ابن باديس: أدب الفعل، إذ به يتضح حال الابن مع والديه، والحالة التي ينبغي أن يعاملهما بها، والتشبيه القرآني: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) (الإسراء: 24) يقصد به الرعاية والإحاطة.
– الدعاء: مهما اجتهد الإنسان في الدعاء لوالديه لا يجازي سابق إحسانهما، فأمره تعالى أن يتوجه إليهما بالدعاء بالرحمة في حياتهما ومماتهما؛ (وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الإسراء: 24).
أما الواجبات التي فرضها البارئ عز وجل على الأم وبينها كتابه فهي:
– الرضاعة: وهي أول الواجبات، وثبتت بمقتضى قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) (البقرة: 233)، وقد فصل القرآن في عدد من آياته في أحكام الرضاع؛ وما ذلك إلا لبيان أهمية الرضاعة في تنشئة الوليد وتكامل بنياته.
– الفطام: يتبع الرضاع الفطام لا محالة، وبالتالي عُد واجباً مثله، والقرآن أشار إلى الفطام في بضعة مواضع، موضحاً أن أمره يكون عن تراض منهما وتشاور، فهما بالخيار متى يفطمان وليدهما.
– التربية: وهي الواجب الأهم لأي أُم؛ لأنه ربما استعاض عن الواجبات الأخرى من رضاع وفطام بوسائل أخرى، أما التربية فلا يتصور الاستعاضة عنها بغيرها، وهناك عدد من النصوص القرآنية التي يمكن أن يستشف منها وجوب تربية الأبناء وتنشئتهم تنشئة صالحة، وسورة «لقمان» توضح ذلك بجلاء، وتؤكد أن التربية الحقة تبدأ بالتوحيد ووقاية الأبناء من الشرك، فإن استقر الإيمان في قلوبهم أمكن تهذيبهم وتنمية الوازع الأخلاقي لديهم.
وبالجملة، أفاض القرآن في حديثه عن الأمومة موضحاً خصائصها المادية والمعنوية، وما يترتب لها من حقوق وما تفرضه من واجبات.