هل يمكن أن يسير مجتمع على قدم الظلم وينمو بصورة طبيعية، ويحيا أفراده كما تحيا الشعوب الحرة؟
إن القارئ الواعي للتاريخ القديم والحديث يعلم جيداً أن العدل هو الركيزة الأساسية في بناء أي مجتمع، والضمانة الأكبر في ازدهار ذلك المجتمع وسعادة أفراده وإحلال قيم السلام والحب والتكامل والتعاطف والترابط والتكافل بين لبناته، فتتوازن الحقوق والواجبات وتزول كافة أسباب البغضاء بين الخلق، ومجتمع بغير عدل مجتمع مهدد بالانفجار في أي وقت.
ولذلك، فقد حث الله عز وجل عباده على قيمة العدل وأكدها، يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء: 58)، ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء: 135).
وفي الأمر بالعدل حتى مع أولئك الذين يبغضهم المسلم أو بينه وبينهم عداوة، فلا يجب أن يدفعه العداء لظلمه بأي حال، فيقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة 8)، ويقول تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (الأعراف: 29)، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90).
وعن عبادة بن الصامت قَالَ: «بايَعْنا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى السَّمْعِ والطَّاعَةِ في المَنْشَطِ والمَكْرَهِ، وأَنْ لا نُنازِعَ الأمْرَ أهْلَهُ، وأَنْ نَقُومَ أوْ نَقُولَ بالحَقِّ حَيْثُما كُنَّا، لا نَخافُ في اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ» (رواه البخاري)، وعن النعمان بن بشير قَالَ: أَعْطَانِي أبِي عَطِيَّةً، فَقالَتْ عَمْرَةُ بنْتُ رَوَاحَةَ: لا أرْضَى حتَّى تُشْهِدَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأتَى رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: إنِّي أعْطَيْتُ ابْنِي مِن عَمْرَةَ بنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فأمَرَتْنِي أنْ أُشْهِدَكَ يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: «أعْطَيْتَ سَائِرَ ولَدِكَ مِثْلَ هذا؟»، قالَ: لَا، قالَ: «فَاتَّقُوا اللَّهَ واعْدِلُوا بيْنَ أوْلَادِكُمْ»، قالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ) (رواه البخاري)، وقال النبي صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أفضَلُ الجِهادِ كلمةُ عَدلٍ عندَ سُلطانٍ جائرٍ، أو أميرٍ جائرٍ» (رواه البخاري).
وفي تطبيق العدل بين الأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء يقول النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» (رواه البخاري)، وعنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إمَامٌ عَدْلٌ» (رواه البخاري)، وقال عليه الصلاة والسلام: «إنَّما الإمامُ جُنَّةٌ، يُقاتَلُ مِن ورائِهِ، ويُتَّقَى به، فإنْ أمَرَ بتَقْوَى اللهِ عزَّ وجلَّ وعَدَلَ، كانَ له بذلكَ أجْرٌ، وإنْ يَأْمُرْ بغَيْرِهِ كانَ عليه منه» (رواه مسلم).
كيف يدعم العدل بناء المجتمع ويساهم في نموه؟
العدل ليس مجرد قيمة أخلاقية نظرية يتشدق بها الناس على ألسنتهم، أو يتحلى به من يشاء ويتخلى عنه من يشاء، إنما واجب مجتمعي عيني سلوكي تنبني عليه تغيرات مجتمعية جمة تنظم حركة المجتمع إيجابياً نحو مستقبل مستقر ومتصاعد وذلك عن طريق تحقيق عدة نقاط:
– تحقيق الاستقرار الاجتماعي:
لا يتحقق الاستقرار الاجتماعي إلا أن يتحقق السلام بين أفراد المجتمع الواحد، ولن يشعر أي مجتمع بالسلام مع انتشار الظلم والفساد والفروق الشاسعة بين الطبقات واحتقان النفوس بالغضب والأمراض الاجتماعية كالكراهية والحقد والفساد الداخلي، تلك الأمراض الناتجة عن الإحساس بالظلم والإحباط، فيلجأ البعض لطرق ملتوية للحصول على حقوقهم وغالباً ما تكون طرقاً غير مشروعة.
إضافةً إلى ذلك، يؤدي غياب العدل إلى تعطيل عجلة التنمية، فالمجتمعات التي تسودها المحسوبية والفساد تفشل في الاستفادة من كفاءات أفرادها؛ ما يؤدي إلى هجرة العقول وانخفاض الإنتاجية، وهذا بدوره يؤثر سلباً على الاقتصاد ويزيد من معدلات الفقر والبطالة.
– تعزيز الثقة بين أفراد المجتمع:
بالظلم تنعدم الثقة في المجتمعات بين الأفراد والمؤسسات التي تنظم الحياة لها، وبين الأفراد بعضهم بعضاً، إذ كيف يثق إنسان في هيئة مسؤولة عنه ثم هي تحكمه بمبادئ الوساطة والمحسوبية والرشوة والقوة الظالمة، فلا يجد الإنسان نفسه في مكانة يستحقها لمجرد أنه لا يملك تلك الواسطة كي يحصل على حقوقه المشروعة؟!
– دعم التنمية الاقتصادية:
يقولون: إن رأس المال جبان، لا يعمل أو ينمو إلا في مجتمع عادل مستقر آمن، وجاء التشريع الإسلامي ليقيم العدل بين الناس، وأقام نظاماً للعدالة لضمان استقرار المجتمع ووضع له أساس العدل ليحدد العلاقة بين أفراد المجتمع الواحد؛ ففي مجال الجباية فرض الإسلام على الأغنياء قدراً محدوداً من المال يدفع للفقراء حقاً لهم، وهذا القدر ليس كثيراً ولا قليلاً، بل يكفي الفقراء ولا يلحق الضرر بالأغنياء، وبهذا فقد كان المقدار عادلاً، لأنه لا يجوز أن تهدر مصالح فئة من الناس لحساب فئة أخرى، ودفع الضرر عن فرد أو فئة من الناس لا يكون بإلحاق الضرر بالآخرين، ومن القواعد المقررة عند الفقهاء: أنه لا يزال الضرر بمثله(1).
ومسألة السلم الاجتماعي والعدالة لا تخص المسلمين وحدهم إذا شاركهم في نفس المجتمع أصحاب دين آخر، ولذلك، فحين ألزم الله تعالى المسلمين بالزكاة والصدقات ليحملوا الفقير منعاً للأمراض الاجتماعية التي تنتج عن غياب العدل، فقد فرض على غير المسلمين الجزية، كمشاركة منهم في تصحيح حركة المجتمع الذي يعيشون فيه وحفاظاً عليه باعتبارهم أفراد أساسيين منه وتحقيقاً لمبدأ العدالة والسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يحرصون على تحقيق العدالة بين الناس، فلم يكونوا يسمحون للولاة أن يتميزوا عن غيرهم من الناس بشيء، لأن ذلك مدعاة للشك بأنهم قد حصلوا على ذلك نتيجة استغلال نفوذهم.
تأثير غياب العدل على استقرار المجتمعات
ماذا يحدث حين تهضم الحقوق داخل المجتمع، وحين يسند الأمر لغير أهله، وحين يجوع البعض ويشبع البعض حد الثمالة؟
في هذه الحالة ينتشر الفساد، والكراهية وتتفكك العلاقات الإنسانية فلا استقرار ولا أمان، ثم يستشري المزيد من الفقر ومن الفساد ومن الخوف الناتج عن اتجاه البعض لاقتناص حقه رغماً عن المجتمع الظالم.
ولذلك، فالسعي الحثيث على تحقيق العدل واجب كل مسلم، فلا يتنازل أحد عن حقه وإلا فهو مساهم بشكل أو بآخر في انتشار الظلم وتدعيم مكانة الطغاة، على المجتمع أن يحارب الظلم والظالمين، بالوعي وتعليم الناس دينهم وقراءة السيرة وتعلم حياة الصحابة والتابعين والاهتداء بهديهم، على الأسرة أن تسعى لتربية أبنائها على العدل والتراحم والتكافل وقيم الإسلام النبيلة التي لا تسير الحياة إلا بها، ثم هي واجب المدرسة والمسجد والمؤسسات الدعوية المعنية بتعريف المسلمين بدينهم، قبل أن يستفحل الأمر وتضيع الأمة في أخلاقيات لا تمت للإسلام من قريب أو بعيد.
_______________________
(1) من كتاب التنمية الاقتصادية في المنهج الإسلامي، عبدالحق الشكيري، ص 70.