في وقت يتساقط فيه الدم الفلسطيني بغزارة، وتتحول مدن غزة ومخيماتها إلى ساحة حرب مدمرة، يظل الصمت العربي مدويًا ومثيرًا للدهشة، ويبدو أن العديد من الدول العربية قد اختارت الوقوف على الحياد، رغم أن الشوارع والقلوب العربية تغلي من الغضب والحزن، هذا الصمت الذي يلف العالم العربي في ظل أفظع الجرائم الإنسانية المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، يجعلنا نتساءل: هل هو تغيّر في موازين القوى العربية؟ أم أن العوامل السياسية والاقتصادية قد فرضت نفسها على مواقف الدول؟ ورغم التضامن اللفظي والبيانات الشاجبة، يبقى السؤال الأهم: هل سيتجاوز العرب كلماتهم، أم أن الصمت سيظل الصوت الوحيد في وجه آلة الحرب الصهيونية؟
وفي الوقت الذي تتساقط فيه القذائف على رؤوس الرجال والنساء والأطفال من أبناء الشعب الفلسطيني، ويُقتل البشر ويُدمر الحجر، يظل العالم العربي في حالة صمت رهيب، كأنما يغشى هذا الصمت أرواحهم قبل آذانهم، صمتٌ لا يوازيه سوى حجم المأساة الإنسانية التي تزداد تعقيدًا في غزة، فبينما ترفع دولة الاحتلال الصهيوني رايات العنف والدمار، يختار العديد من الحكام العرب أن يبقوا صامتين، تاركين أهل غزة يواجهون قدرهم بمفردهم.
ولكن، هذا الصمت ليس صمتًا بريئًا، إنه صمت مليء بالأبعاد السياسية، والاقتصادية، وحتى الإستراتيجية، فبينما تُستباح الأرض الفلسطينية، تحتفظ بعض الدول العربية بعلاقات مع القوى الدولية التي لها مصالحها الخاصة في المنطقة؛ ما يجعلها عاجزة عن اتخاذ مواقف حاسمة أو حتى داعمة للقضية الفلسطينية ومقاومتها الفلسطينية بما يتجاوز البيانات الإعلامية.
وليس هذا فحسب، بل إن الصمت العربي يأتي أيضًا في وقت حساس للغاية، حيث يعاني العالم العربي من انقسامات داخلية، وتحديات اقتصادية وأمنية، تؤثر بشكل مباشر على القدرة على اتخاذ مواقف موحدة، فهل أصبح العرب رهائن للتوازنات الإقليمية والدولية التي لا يمكنهم الخروج عنها؟ أم أن هناك دوافع أخرى وراء هذا التردد المخيف في الوقوف بجانب فلسطين وقضيتها العادلة؟ وهل سيظل الصمت هو الخيار؟ أم أن التحدي الأكبر سيكون في اتخاذ خطوات فعلية نحو دعم الشعب الفلسطيني بكل الأشكال الممكنة؟
صمت مرهون
إن هذا الصمت العربي على جرائم الاحتلال قد يكون نتيجة لعدة عوامل معقدة ومتداخلة، تشمل الجوانب السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية، ويمكن تلخيصها فيما يلي:
1- التحديات الداخلية: حيث إن العديد من الدول العربية تواجه أزمات سياسية واقتصادية وصراعات داخلية، قد تجعلها مشغولة بنفسها وبقضاياها الداخلية والحفاظ على استقرارها الداخلي بدلاً من التدخل في قضايا خارجية.
2- التوازنات السياسية: بعض الحكومات العربية قد ترى أن اتخاذ مواقف صارمة ضد الاحتلال الصهيوني، قد يؤثر على علاقاتها مع دول أخرى، سواء كانت ذات مصالح اقتصادية أو سياسية في المنطقة، مثل علاقتها مع الدول الغربية أو حتى مع بعض القوى الإقليمية.
3- التحولات الجيوسياسية والتطبيع: في ظل التحولات في منطقة الشرق الأوسط، مثل اتفاقات التطبيع بين بعض الدول العربية ودولة الاحتلال، قد ترى بعض الحكومات أن التفاعل مع الاحتلال أو الانتقاد قد يعرض تلك الاتفاقات للخطر، أو يعرقل مسار السلام المزعوم.
4- الانقسام العربي: هناك تباين في المواقف العربية تجاه القضية الفلسطينية، حيث لا تتفق جميع الدول على كيفية التعامل مع هذا الملف، فالبعض يدعم بشكل قوي الحقوق الفلسطينية، بينما لا يزال البعض الآخر يتبع سياسات متقاربة مع دولة الاحتلال.
5- الإعلام والسيطرة على الرواية: في بعض الدول العربية، هناك سيطرة أو رقابة على الإعلام قد تحد من تناول بعض القضايا بشكل مباشر وصريح، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بمواضيع حساسة تتعلق بالاحتلال أو الحرب على غزة.
6- الضغوط الدولية: بعض الدول العربية تتعرض لضغوط من القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، التي قد تدفعها إلى التزام الصمت أو عدم اتخاذ مواقف قوية ضد الاحتلال.
أخطار جَمّة
كما لا يمكن إغفال التداعيات الخطيرة لصمت الأنظمة والحكومات العربية تجاه حرب غزة والجرائم الصهيونية ضد الفلسطينيين، سواء على مستوى القضية الفلسطينية أو على المستوى الإقليمي والدولي:
1- إضعاف الموقف الفلسطيني: الصمت العربي والتخلي عن الدعم السياسي للفلسطينيين وقضيتهم وحقوقهم يعزز الشعور بالوحدة والعجز لدى الفلسطينيين، ويجعلهم يشعرون بأنهم يواجهون الاحتلال بمفردهم، وأنهم فقدوا دعم الأنظمة العربية الذي يعتبر جزءاً أساسياً في تعزيز نضالهم؛ ما يؤدي إلى تراجع الأمل لديهم في تحقيق العدالة والحرية.
2- الإضرار بمستقبل القضية الفلسطينية: الصمت العربي وغياب الدعم العربي وعدم التصعيد السياسي أو التدخل الدبلوماسي الفاعل، يجعل القضية الفلسطينية عرضة للتقادم أو التهميش على الساحة الدولية، في ظل تزايد الانشغالات الإقليمية والدولية بالقضايا الأخرى.
3- تقويض الموقف العربي التقليدي: من خلال الصمت أو التصريحات العربية التي تتسم بالحذر، ساهمت بعض الحكومات العربية في تقويض الإجماع العربي التقليدي على دعم حقوق الفلسطينيين ورفض الاحتلال الصهيوني، كما أن غياب الضغط العربي قد يؤدي إلى تقليل فرص تحقيق حل عادل للقضية الفلسطينية، خاصة في ظل المحاولات الصهيونية المستمرة لفرض الوقائع على الأرض من خلال التوسع الاستيطاني والتهويد.
4- إضعاف وحدة العمل العربي: بسبب الصمت أو المواقف غير الحاسمة، للأنظمة والحكومات العربية، تتراجع فعالية المؤسسات العربية، مثل جامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، في ممارسة الضغط على دولة الاحتلال الصهيوني، أو اتخاذ مواقف فاعلة وصارمة وداعمة للقضية الفلسطينية.
5- انهيار الثقة بين الحكومات العربية وشعوبها: الحكومات العربية التي تتجاهل قضايا فلسطين بصمتها، وآخرها حرب الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة على يد جيش الاحتلال الصهيوني، وحكومته الفاشية، تضعف ثقة شعوبها بها، خاصة في الدول التي كان لها تاريخ طويل في دعم القضية الفلسطينية، وهذا قد يؤدي إلى تراجع شرعية هذه الأنظمة داخليًا ويزيد من الاحتجاجات الشعبية ضدها.
6- استمرار مسار التطبيع: اتفاقيات التطبيع قيدت المواقف العربية وأضعفت قدرتها عن التصدي لممارسات الاحتلال بحق القضية الفلسطينية، وأضعفت الحكومات العربية وأجبرتها على التماهي مع المواقف الصهيونية خوفاً من الغضب الأمريكي، كما أنها قلصت الالتزام العربي بقضية فلسطين، وعززت العلاقات الاقتصادية والسياسية مع دولة الاحتلال على حساب الحقوق الفلسطينية؛ ما ساهم في تبديد وحدة العالم العربي بشأن القضية الفلسطينية.
7- تفشي الفوضى الإقليمية وتزايد الاستياء العام: معظم الشعوب العربية تشعر بالاستياء والغضب من صمت حكوماتهم إزاء ما يحدث في غزة؛ ما يساهم في زيادة التوترات السياسية والاحتجاجات الشعبية في العديد من الدول العربية، كما يساهم في زيادة الاستقطاب والانقسام داخل العالم العربي بين الحكومات المؤيدة لدولة الاحتلال وبعض الدول التي تدعم المقاومة الفلسطينية، الذي يؤدي بدوره إلى تفاقم الفوضى في المنطقة ويضعف القدرة العربية على مواجهة التحديات المشتركة.
8- تعزيز الاحتلال الصهيوني: الصمت العربي على استمرار العدوان والجرائم والإبادة بحق الأبرياء من المدنيين في غزة، يعزز من موقف دولة الاحتلال ويمنحها الضوء الأخضر لمواصلة سياسة القتل والتدمير ضد المدنيين الفلسطينيين، وفي الوقت الذي لا تواجه فيه دولة الكيان ردًا قويًا أو فاعلاً من العرب، فستتمادى في سياستها العسكرية طالما أنها غير مهددة عسكرياً أو سياسياً بشكل حقيقي.
9- إضعاف الضغط الدولي على دولة الاحتلال: عندما يكون الموقف العربي ضعيفًا أو غائبًا، فإن الضغوط على دولة الاحتلال على الساحة الدولية تتقلص؛ ما يجعلها أقل عرضة للمساءلة القانونية والدولية.
صمت الحكومات العربية إزاء الجرائم الصهيونية في غزة، لا يمكن تبرير أسبابه ودوافعه مهما كانت، وما كان لهذا الصمت أن يستمر لو كان هناك موقف عربي موحد وقوي، وعوامل ضغط يحسب لها الكيان الصهيوني ومن ورائه المجتمع الدولي ألف حساب، بدل الارتهان والخضوع للغرب، كما أن هذا الصمت بكل تداعياته التي تتجاوز الحدود السياسية الخارجية يؤثر في الواقع الفلسطيني والعربي بشكل عام، ويساهم في تعزيز الاحتلال الصهيوني، وتآكل شرعية الأنظمة العربية، ويدفع الشعوب نحو مزيد من الإحباط والغضب.