تُرى، ما الذي يجعل إنسانًا قصف بيته على رأسه يخرج من تحته جريحًا حامدًا لله مسترجعًا؟! من يربط على قلب امرأة استشهد كل أطفالها لكنها تلهج بالدعاء: «اللهم خذ من دمائنا حتى ترضى»؟! أي يقين يسكن قلب رجل تسأله المذيعة عن حاله بعد تهجيره من بيته عنوةً وقسرًا، فيرد: «خرجنا بما هو غال علينا ديننا وكرامتنا، صبرنا ربع قرن، بدنا نصبر زيهم، الله يقول: (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) (الروم: 60)؟!
ألا تذكرنا الحالة الأولى بالصحابي خباب بن الأرت في صبره على هدم قريش بيته وتعذيبه حتى يترك الإسلام، لكنه صبر وثبت؟ ثم ألا تشبه المرأة في صبرها الخنساء بنت عمرو حين بلغها استشهاد أبنائها الأربعة في معركة «القادسية» فقالت: «الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته»؟ أليس الرجل حين هُجر بدينه وكرامته، هو خلف لمهاجري المسلمين حين خرجوا من بيوتهم في مكة مهاجرين إلى الله ورسوله؟ إذًا ينتمي هؤلاء لأصل واحد، وينهلون من نفس المعين، ولا تختلف نظرتهم لهذه الحياة، فبماذا يعتصمون حين تفجعهم النوازل وتزلزلهم نوائب الدهر؟
نجد هنا ثلاثية الله والإنسان والكون، فالله هو الإله المعبود، وهو صاحب الكون وسيده وخالقه ومدبره، لا يحدث في ملكه إلا ما يريد، ولا راد لقضائه، والإنسان خليفة الله في الأرص خلقه ليعبده، والعبادة تقتضي الخضوع وتمام التسليم له دون سواه، والكون هو محل استخلافنا، سُخر لنا ونسأل عنه، ومن ثم فهذه التراتبية العبودية لله والاستخلاف على الكون، تقتضي أن يسعى الإنسان في الكون تحقيقًا لمراد الله منه، ثم أن يتحمل في سبيل تحقيق مراد الله ما يلقى من بأساء وضراء.
فملاقاة البأساء والضراء يرد المسلم لحقيقة أنه خلق في كبد؛ بمعنى أنه خُلق يكابد الشكر على السّرّاء والصبر على الضّرّاء، ولا يخلو من أحدهما، ويكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة -على قول الحسن البصري- وأن الدنيا بمختلف أحوالها بلاء، فالشر والخير كلاهما له فتنة، ليختبر في صبره وشكره، والبلاء في الإسلام ذا حقيقة مركبة، فمن جهة هو معيار لتراتبية أخروية بين عباد الله لأنه مؤشر لإيمان المرء وصبره، ومن جهة أخرى وسيلة تطهير من ذنبه وتكفير عن خطيئته.
عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، فيُبْتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة»، فالبلاء إذًا -في أحد معانيه- وسيلة إلهية لفهم حقيقة الدنيا والآخرة.
الدنيا بصروفها لا يفهمها المسلم إلا في مقابلتها مع الآخرة، فهي سريعة خاطفة، «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بماذا ترجع»، هكذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم، واليوم في الآخرة بألف سنة مما نعد في الدنيا، فإن كانت هي الآخرة دار القرار والبقاء، فلا تعدو الدنيا بوابة عبور لحياة الأبدية والخلود، حال المسلم فيها حال الغريب أو عابر السبيل، يمر عليها لكنه لا ينتمي لها.
لذا، فالدنيا التي هي دار تكليف وابتلاء للمؤمن، يتحمل فيها مشاق الطاعة والعبادة، والسعي لطلب العلم وحيازة الملكات لأداء رسالته في الأرض، ويعاني فيها نقص من الأموال والأنفس والثمرات، وهو في الوقت ذاته مأمور بلجم شهواته، ومحرم عليه كثير من متعها، إنما هي سجن له وجنة للكافر.
والجنة والسجن دائمًا متداخلان متدافعان، لذا فجنة الكافر في الدنيا هي فتنة دائمة للمؤمن السجين، فإن كانت في أحد معانيها تعني أن الكافر ممتع وأنا محروم، فالمتعة إنما تكون في الشهوات كالمال والنساء والقوة والسلطة، وكل إمعان في التمتع بشهوة منهم تعني بالضرورة تجاوزًا في حق الله والآخرين، ومن هنا تكون جنة الكافر ظلمًا وفتنة للمؤمن في سجنه.
تتكثف هذه الثوابت في كتاب الله ويضرب لها الأمثال، لكن المسلم يستعين على وعيها وإدراكها بطلب العون من الله على مظالم الدهر، وأن يثبت قلبه على دينه، وألا يحمله ما لا طاقة له به، ثم ببذل قدر الوسع والطاقة، بالإعداد والأخذ بالأسباب جهادًا في الله ودفعًا لهذه النوائب نصرة الحق، فإن تعذر الإعداد والدفع فالخروج بدينه هجرة إلى الله ورسوله، فثنائية الهجرة والنصرة، ثنائية تكثف حال المسلم في صغير أموره وكبيرها منذ ولد الإسلام في جزيرة العرب وحتى اليوم، وتترسخ معها حقيقة ألا عيش إلا عيش الآخرة.