سطر التاريخ للشيخ سارية الرفاعي صفحات مشرقة من الثبات على الحق والتضحية في سبيل المبدأ، فقد عاش حياة حافلة بالمواقف البطولية التي تجلت فيها معاني العزة والكرامة، مجسداً قول الله تعالى: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) (النساء: 100).
وكانت هجرته الأولى عام 1980م إلى المدينة المنورة، حين ضاقت به السبل في دمشق إثر تعرضه مع مجموعة من العلماء لضغوطات أمنية من النظام السوري، لم تكن هجرته انقطاعاً عن العمل والعطاء؛ بل كانت محطة جديدة من محطات البذل، حيث جالس علماء المدينة وأفاد من علمهم وخبراتهم، فأمضى في هجرته الأولى 13 عاماً، تزود خلالها من معين العلماء الأفذاذ كالشيخ محمد زكريا البخاري، والشيخ محمد مهدي التبر، وغيرهما من أعلام العلم والدعوة.
وحين عاد إلى دمشق عام 1993م، استأنف نشاطه العلمي والدعوي بهمة متجددة وعزيمة لا تلين، لكن الأحداث التي شهدتها سورية عام 2012م فرضت عليه هجرة ثانية، بعد موقفه المشهود في إضراب دمشق عقب مجزرة الحولة، وكان موقفه هذا تجسيداً حياً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»، فقد استطاع بكلمته وموقفه أن يحرك الضمير الجمعي للمجتمع السوري، حين دعا إلى إغلاق المحال والأسواق احتجاجاً على المجزرة.
وبدأت محطة هجرته الثانية في القاهرة، حيث أقام عاماً كاملاً لم يتوقف فيه عن العمل والعطاء، أسس المدارس لأبناء اللاجئين السوريين، وأشرف على إرسال المعونات إلى مخيمات اللاجئين، محولاً محنة الهجرة إلى منحة للعطاء والبذل، ثم انتقل عام 2013م إلى إسطنبول، ليبدأ مرحلة جديدة من النشاط العلمي والدعوي، مشاركاً في تأسيس المجالس والروابط الإسلامية، ومواصلاً دوره في خدمة العلم والدعوة حتى وافاه الأجل.
كانت هجرات الشيخ رحمه الله دروساً بليغة في الثبات على المبدأ والتضحية في سبيل العقيدة، لم تكن هجراته هروباً من المسؤولية؛ بل كانت انتقالاً نحو آفاق أرحب للعمل والعطاء، ونسأل الله أن يكون ضمن من قال الله تعالى فيهم: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً) (الحج: 58).
عالم جمع بين العلم والخلق
عرف الشيخ الرفاعي بشخصية جمعت بين الهيبة والتواضع، والقوة واللين، والحكمة والشجاعة، وكان نموذجاً للعالم العامل الذي يترجم علمه إلى سلوك عملي في حياته اليومية.
وتميز بتواضع جم في تعامله مع الناس على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم، وكان يجلس مع الفقير والغني، والعالم والجاهل، والكبير والصغير، ويستمع إليهم بقلب حاضر وابتسامة لا تفارق محياه، حتى في أشد لحظات المرض والابتلاء، لم تغب تلك الابتسامة المشرقة عن وجهه؛ مما جعل له مكانة خاصة في قلوب كل من عرفه.
أما في معالجته للقضايا والأزمات، فقد عرف بحكمته الفريدة وبُعد نظره، كان يتأنى في إصدار الأحكام، ويزن الأمور بميزان الشرع والحكمة، فلا يندفع في قراراته ولا يتسرع في مواقفه، وهذه الحكمة مكنته من معالجة كثير من القضايا الشائكة في المجتمع، وجعلت منه مرجعاً موثوقاً في حل النزاعات وإصلاح ذات البين.
وفي جانب الشجاعة في قول الحق، كان رحمه الله مثالاً يحتذى، لم تمنعه التهديدات ولا الضغوط من الصدع بكلمة الحق، ولم تثنه المغريات عن مواقفه المبدئية، كان صوتاً قوياً في مواجهة الظلم والطغيان، يتكلم بلسان الحق دون خوف أو تردد، مع حفاظه على الحكمة والاتزان في طرح القضايا.
ومن أبرز سماته رقة قلبه وإحساسه العميق بآلام الناس ومعاناتهم، فكان يبكي لبكاء المظلومين، ويتألم لمعاناة المحتاجين، ويسعى جاهداً في تفريج كرباتهم، هذا الإحساس المرهف دفعه لتأسيس المشاريع الخيرية المتنوعة التي خففت معاناة آلاف الأسر المحتاجة.
وفي محنته الأخيرة مع المرض، تجلت صفات الصبر والرضا بقضاء الله في أبهى صورها، حمل آلام المرض بقلب راض وصبر جميل، محولاً فراش مرضه إلى محراب للعبادة ومنبر للدعوة، حتى في أشد لحظات مرضه، كان حريصاً على نفع الناس وتدوين مذكراته وخواطره، تاركاً لنا إرثاً علمياً وعملياً ثميناً.
الإرث العلمي والدعوي.. بصمات خالدة في خدمة الإسلام
وعلى مدى عقود من العطاء المتواصل، ترك الشيخ الرفاعي رحمه الله إرثاً علمياً ودعوياً ثرياً، يشهد على عمق علمه وسعة فكره، فمنذ توليه إمامة جامع زيد بن ثابت في دمشق، أسس منهجاً علمياً وتربوياً متكاملاً، يجمع بين الأصالة والمعاصرة.
وفي مجال التأليف والكتابة، ترك الشيخ مؤلفات قيمة تجمع بين العمق العلمي والأسلوب السلس، ومن أبرز مؤلفاته كتاب «مذكرات في زمن الثورة» الذي وثق فيه تجربته وشهادته على أحداث مفصلية في تاريخ سورية المعاصر، كما أثرى المكتبة الإسلامية برسالته القيمة «الأربعون السنية في ثلاثيات الأحاديث النبوية»، التي جمع فيها نخبة من الأحاديث النبوية بأسلوب فريد، ولم يمنعه المرض من مواصلة الكتابة والتأليف، فقد ترك مخطوطاً آخر من مذكراته ينتظر النشر.
وفي المجال المؤسسي، أسس مكتبة الغزالي للطباعة والنشر عام 1969م، التي أصدرت كثيراً من الكتب والدراسات في مختلف المجالات العلمية والأدبية والثقافية، كما أسس مركز زيد بن ثابت الذي قام بدور ريادي في إعداد المناهج التعليمية والدورات العلمية، وكان لقناة «الدعوة» الفضائية التي أسسها دور بارز في نشر العلم والوعي الإسلامي، قبل أن يتم إغلاقها من قبل النظام السوري.
وفي مجال التعليم والتربية، تميز منهج الشيخ بالشمولية والتكامل، فقد أسس معهد الفرقان لتعليم الإناث، وأشرف على إعداد مناهج الدورات الصيفية في المساجد تحت عنوان «الثقافة الإسلامية للمبتدئين»، كما كان له دور بارز في تكريم شيوخ القراء في دمشق، حرصاً منه على تقدير العلماء وحفظة القرآن الكريم.
وفي مجال العمل الخيري والإغاثي، أسس نموذجاً فريداً في العمل المؤسسي المنظم من خلال جمعية حفظ النعمة ومشاريعها المتنوعة، كما كان له دور بارز في إغاثة اللاجئين السوريين خلال محنتهم، سواء في مصر أو تركيا، مقدماً نموذجاً عملياً في ربط العمل الخيري بالرسالة الدعوية.
أما إرثه الأعظم فيتمثل في الآلاف من تلاميذه وطلابه الذين تأثروا بعلمه وخلقه، وحملوا مشعل الدعوة من بعده، فقد خرّج أجيالاً من الدعاة والعلماء الذين يواصلون مسيرته في خدمة الإسلام والمسلمين، مجسدين منهجه في الجمع بين العلم والعمل، والحكمة والشجاعة.
بصمة لا تمحوها الأيام
في يوم الإثنين 6 رجب 1446هـ/ 6 يناير 2025م، تنقل خبر رحيل الشيخ سارية الرفاعي في أرجاء العالم الإسلامي كالنار في الهشيم، وامتلأت الصفحات بصوره والدعاء له والترحم عليه، مخلفاً وراءه حزناً عميقاً في قلوب محبيه، وهكذا طويت صفحة مشرقة من تاريخ الدعوة الإسلامية المعاصرة، برحيل الشيخ الرفاعي رحمه الله، لكن آثاره وبصماته باقية في مدارسه ومؤسساته وتلاميذه، وفي قلوب وعقول من عرفوه وتتلمذوا على يديه.