الإسراء والمعراج معجزة ثابتة بالقرآن والسُّنة
ثبت الإسراء والمعراج في سورتي «الإسراء» و«النجم»، وقد وردت أحاديث الإسراء والمعراج في كتب السُّنة الصحيحة بما لا يتطرق إلى صحتها شك(1)، ودار نقاش بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش وهو يروي لهم ما حدث في الإسراء، فلو أن الإسراء كان منامًا كما يدعي بعض الناس ما كان هناك مجال للنقاش، وهل يناقش النائم فيما يراه؟
يقول القاضي عياض: لو كان منامًا لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما استبعده الكفار، ولا كذبوه فيه، ولا ارتد به ضعفاء من أسلم، وافتتنوا به؛ إذ مثل هذا من المنامات لا يُنكر؛ بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته(2).
واختلف المؤرخون في تحديد تاريخ الإسراء والمعراج إلى أقوال كثيرة، ويرجح الشيخ رشيد رضا بأنه كان قبل الهجرة بسنة، وبه جزم ابن حزم في ليلة 27 رجب، وهو المشهور وعليه عمل الناس، وكان ليلة الإثنين، وكان بعد خروجه إلى الطائف(3).
رؤية المستشرقين للإسراء والمعراج
إن موقف الاستشراق بصفة عامة من النبي صلى الله عليه وسلم يقوم على عدم الإيمان به نبيًا يوحى إليه، ويدرسون السيرة النبوية من خلال فكرتين؛ الأولى: محمد الإنسان الذي توافرت فيه جميع صفات العبقرية، فاستطاع أن يوحد العرب، ويقيم دولة تمتد شرقًا وغربًا، والثانية: التجربة الروحية لمحمد صلى الله عليه وسلم التي انتهت باعتقاده من خلال التخيلات أنه يستقبل الوحي من السماء كرسول يوحى إليه؛ وأخضعوا أحداث معجزات النبي صلى الله عليه وسلم للرؤية العقلية؛ في محاولة إثبات وقوع النبي صلى الله عليه وسلم تحت تأثيرات مختلفة، وتلك الرؤية عبر عنها مونتجومري وَات بأن الاعتقاد في رحلة الإسراء والمعراج، وأن جبريل اصطحبه إلى بيت المقدس، وعرج به في السماء يمكن القبول بها على أنها رؤيا رآها محمد لا حقيقة(4).
تأثر الفكر العربي برأي الاستشراق في الإسراء والمعراج
وقد تأثر بعض الكتَّاب والمفكرين المسلمين برؤية المستشرقين للإسراء والمعراج حتى يومنا هذا وما زالوا، ونحن هنا نقدم نموذجًا للتمثيل، وذلك من خلال كتاب محمد حسين هيكل «حياة محمد»(5)، وتعليق أبو عبدالله الزنجاني على مادة «إسراء» في دائرة المعارف الإسلامية التي كتبها B.Schrieke(6).
دأب محمد حسين هيكل على ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه كله الذي تجاوز 600 صفحة مجردًا بلفظ «محمد» فقط دون ذكر الصلاة عليه أو نعته بالنبي أو الرسول، ولا نعلم تأويلاً لذلك إلا مجاراته للمستشرقين في ذلك، فالمستشرقون لهم العذر في ذلك، فهم به لا يؤمنون، أما المسلم فلا يليق به أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم باسمه مجردًا.
ويذهب هيكل أن الإسراء والمعراج لا يقبل عقلاً إلا أن يكون تجربة روحية سامية، وصفاء وجداني لمحمد، بالروح فقط وفقًا للعلم في عصرنا الحاضر الذي يُقرُّ هذا الإسراء والمعراج بالروح؛ فحيث تتقابل القوى السليمة يشع ضياء الحقيقة، فإذا بلغ روح من القوة ومن السلطان ما بلغت نفس محمد، فأسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته، وكان ذلك مما يقرُّ العلم، وكانت حكمة ذلك هذه المعاني القوية السامية في جمالها وجلالها التي تصور الوحدة الروحية ووحدة الكون في نفس محمد تصويرًا صريحًا يستطيع الإنسان أن يصل إلى إدراكه إذا حاول السمو بنفسه عن أوهام العاجلة في الحياة.
ويفسر هيكل المشاهد التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج أنها لحظات تأملية تجلت لروحه، فيقول: «وأحسبك لو سألت الذين يقولون بالإسراء بالروح في هذا لما رأوا فيه عجبًا بعد الذي عرف العلم في وقتنا الحاضر من إمكان التنويم المغناطيسي للتحدث عن أشياء واقعة في جهات نائية، ما بالك بروح يجمع الحياة الروحية في الكون كله ويستطيع بما حباه الله من قوة أن يتصل بسر الحياة من أزل الكون إلى أبده؟».
ويفترض هيكل أن الإسراء والمعراج يمكن أن يكون يقظة كنظرة تأملية غشيت نفس محمد؛ فاطلع على ما وراء الطبيعة، فيقول: «في حياة محمد الروحية معنى سام غاية السمو.. فهذا الروح القوي قد اجتمعت فيه في ساعة الإسراء والمعراج وحدة هذا الوجود بالغة غاية كمالها.. لم تقف أمام ذهن محمد وروحه في تلك الساعة حجاب الزمان والمكان أو غيرهما من الحجب.. تداعت في هذه الساعة كل الحدود أما بصيرة محمد، واجتمع الكون كله في روحه، فوعاه منذ أزله إلى أبده».
ويرى أبو عبدالله الزنجاني في تعليقه على مادة الإسراء والمعراج في دائرة المعارف الإسلامية أن القول بإسراء النبي صلى الله عليه وسلم بجسده كان من مبالغة الصحابة رضي الله عنهم في حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم لدرجة أنهم لم يفهموا ويتأملوا أقواله في هذا الموضوع جيدًا، فقد فهموا قوله على غير مراده، وما ورد من طريق الصحابة والمفسرين منسوبًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة من جميع نواحيها نجد ما يهدينا إلى أن الإسراء كان بالروح وفقاً لمنطق العقل وما يهدينا إليه العلم.
فالنظر الدقيق والتأمل في هذه النصوص يهدي إلى أن العقل والنقل لا يقران بأن الشق من جبريل كان لجسمه الشريف ولا يشك فيه عاقل، ثم هل يقر العلم والعقل أن الإيمان والعلم والحكمة والحلم والإسلام واليقين مما توضع في طست من الذهب؟! وهل صفة الغلِّ تغسل بالماء؟! وهل هذه الأمور التي ذكرت في ابتداء الإسراء إلا شواهد بأنه كان بالروح؟!
وخلاصة القول: إن معجزة الإسراء والمعراج قضية إيمانية لا تخضع للعقل، وإنكار المستشرقين معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها الإسراء والمعراج ليس مستغربًا منهم، فهم بنبوته لا يؤمنون، لكن الغريب أن يتابعهم كتَّاب المسلمين، ويرددون أفكارهم وينافحون عنها؛ فالمعجزات لا تخضع للعقل، فكيف يفسر العقل والعلم الحديث معجزة ميلاد المسيح دون أب، وتكلمه في المهد، وصعوده إلى السماء؟!
ويناقش المستشرق جيورجيو ما قيل عن الإسراء والمعراج أنه رؤيا في المنام، ويعتبر هذا الرأي مقبولًا بلا خلاف، لكنه ليس معجزًا؛ ونحن في حال النوم لا نخاطب من ماتوا في عصرنا فحسب، بل نخاطب من ماتوا قبل قرون، ونحن نعلم أنهم أموات، ومع هذا لا يأخذنا العجب إذ نحادثهم، ويبدو هذا لنا أمرًا عاديًا.
إن الحجب تزول أمام ناظرينا، وتقصر الفواصل الطويلة، وفي الحلم يمكن أن نطير فوق الجبال ويبدو القفز لنا عاديًا، ونستطيع أن نزور أماكن غريبة، ولا يمكننا أن نحسب الزمان الذي نعيشه في حال الحلم.
ويخلص جيورجيو أن الإسراء والمعراج عقيدة دينية لا تخضع للعقل؛ فإذا كان علم الفيزياء لا يقبل الإسراء والمعراج، فإنني أحترم العقيدة الإسلامية، وأقبل كل ما جاءت به من الناحية الدينية، ولدينا نحن المسيحيين اعتقادات دينية لا يقبل بها علم الفيزياء كذلك، ومع ذلك نقبل بها، ونعتبرها من صلب معتقداتنا(7).
___________________
(1) فتح الباري، كتاب مناقب الأنصار، 41، باب حديث الإسراء رقم3886،7/196، 42- باب المعراج 7/201، رقم 3997؛ النووي: شرح صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله 2/268459حديث رقم259؛ كتاب الإيمان، باب: الإسراء برسول الله إلى السماوات وفرض الصلاة 2/274 رقم 259.
(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفي صلى الله عليه وسلم، ص253.
(3) محمد رشيد رضا: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ص89.
(4) مونتجومري وات: محمد في مكة، ترجمة: شعبان بركات، ص208.
(5) محمد حسين هيكل: حياة محمد، ص202-210.
(6) شريك (B.Schrieke): مادة «إسراء» في دائرة المعارف الإسلامية (الطبعة العربية)، ص713.
(7) كونيتانس جيورجيو: نظرة جديدة في سيرة رسول الله، ترجمة: محمد التونجي، ص136-143.