كشفت أحداث الثورة السورية التي أسقطت النظام الطائفي الإرهابي (8 ديسمبر 2024م)، عن توحش الأقليات في العالم العربي خاصة والإسلامي عامة.
رفع المستعمرون الغربيون الغزاة مصطلح «الأقليات» بعد إسقاط الدولة العثمانية، ليحققوا السيطرة الكاملة على العالم العربي بإثارة الإحن والبغضاء والأحقاد والعنصرية والمذهبية والحزبية، والوصول إلى تمزيق الكيانات وتفتيتها من خلال الإلحاح على الطائفية، وسحق الأكثرية التي تملك القدرة على مقاومة الغزو الاستعماري وتحقيق الاستقلال.
في الحضارة الإسلامية، لم تسطع فكرة الأقليات بالشكل الذي نراه الآن، كانت السلطة الإسلامية تتعامل مع الخاضعين لها من مسلمين وغيرهم بمنطق الإنسانية الراقية التي ترى في أبنائها فريقاً واحداً متساوياً يعمل وينتج في ظل مبدأ (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء: 70).
كانت مجالس الخلفاء تضم المسلم والنصراني واليهودي والصابئ والزنديق والملحد والمجوسي دون تمييز أو غضاضة، وكلهم يفكر ويعمل من أجل مصالح الدولة ووجودها وحضارتها وثقافتها.
مع اتفاق «سايكس بيكو» عقب الحرب العالمية الأولى، تم الاتفاق بين القوتين الاستعماريتين الكبيرتين (فرنسا وإنجلترا) على تقسيم العالم العربي، وشهدت بلاد الشام، على سبيل المثال، نشوء كيانات مستقلة أو شبه مستقلة؛ دولة دمشق ودولة حلب، ودولة العلويين (النصيريين)، ودولة لبنان، وكيانات تعيش في شبه حكم ذاتي؛ الدروز والأكراد، وبداية تهويد فلسطين ومحاولات الاستيلاء على القدس!
ثم تصاعدت نغمة حماية الأقليات المسيحية التي تعزفها دول استعمارية كبرى مثل فرنسا وإنجلترا وروسيا، مع تأييد ضمني من ألمانيا وإيطاليا وهولندا، وحق هذه الدول في التدخل لحماية أتباع الكنيسة من الأغلبية الإسلامية المتوحشة، كما يعلنون!
مع هذا الدعم الغربي، نهضت نخب من الأقليات لتطالب بالندية الكاملة والحق في فرض ثقافة الأقلية على الأكثرية، وحرمان الأكثرية من التعبير عن نفسها، ومن خلال نسف الديمقراطية العرجاء في بعض البلاد العربية، نشأت أنظمة مستبدة قمعية تلبي إرادة الأقليات وتسحق هوية الأكثرية، وتستجيب لرجل الدين الطائفي أو المذهبي أو قائد الطائفة بصفة عامة؛ فتغيرت مناهج التعليم، والإجازات الأسبوعية والسنوية، وأغلقت المساجد باستثناء بعض الساعة الذي تقام فيه الصلاة، واختيار الأئمة والخطباء والوعاظ ممن يخضعون للأوامر، ويتمتع معظمهم بمستوى علمي متدنٍّ، وراج التأكيد على عدوانية دين الأكثرية وإرهابه للمجتمع، بعد حذف ما يتعلق به في مناهج التعليم إلا بعض الإنشائيات العامة، وعدم إضافته لمجموع الطلاب في الامتحانات!
كان الإعلام والصحافة والإذاعة وأجهزة الثقافة والسينما والمسرح من الوسائل الفعالة في عملية إقصاء الإسلام واستئصاله من الحياة العامة، وروّجت فرق من اليسار الشيوعي والناصري والبعثي ومن يطلق عليهم العلمانيون لمصطلحات تشير إلى الإسلام دون أن تسميه مثل الرجعية والظلامية والتخلف، وإطلاق ألقاب غير مقبولة اجتماعياً على من يتمسك بالفكرة الإسلامية ويرى فيها طريقاً أمثل للحياة الأفضل، مثل «الداعشية» و«القاعدية» وأسماء بعض الأشخاص الذين دارت حولهم جدليات مزعجة.
كان النظام الطائفي السوري نموذجاً لتوحش الأقلية واستباحة الأكثرية، فالطائفة النصيرية التي يمثلها النظام السوري الذي يرتدي لباس حزب البعث القومي العربي تبلغ حولي 10% من عدد سكان سورية، وتتمركز في الساحل السوري، وهي طائفة فقيرة عموماً أثيرت حولها بعض الاتهامات الخاصة بخيانة الأكثرية وخدمة الغزاة الفرنسيين، ولكنها كافحت لتصل إلى بعض المناصب والمراكز الإدارية، ووجدت في حزب البعث المنادي بالقومية العربية وإسقاط الإسلام فرصتها لتتصدر المشهد السوري، وكان زكي الإرسوزي (النصيري) من كبار منظري البعث، وصاحب كلمة مؤثرة على البعثيين من غير الطائفة النصيرية.
واستطاع حافظ الأسد أن يلتحق بسلاح الطيران، وأن يحظى بمنحة للتدريب في مصر، ووصل إلى منصب وزير الدفاع، ودبر انقلابه في عام 1963م ليحكم سورية أكثر من 30 عاماً، ويورث الحكم لابنه بشار بعد وفاة نجله الأكبر باسل في حادث غامض.
شارك حافظ في حرب 1967م، وترك الجولان منسحباً قبل وصول قوات العدو بـ36 ساعة، وقيل في ذلك كلام كثير، ونشر الضابط خليل مصطفى كتاباً تحدث فيه عن ثمن بخس تقاضاه حافظ مقابل تسليم الجولان، وفي حرب عام 1973م لم يكن أداء جيشه على المستوى المطلوب؛ ما دفع إلى كارثة الثغرة على الجبهة المصرية، لقد وطد حافظ حكمه لسورية بالحديد والنار، واستأصل الأكثرية السُّنية الساحقة من المناصب المؤثرة والإدارات العامة، ومنح الوظائف المهمة لأبناء طائفته ومرتزقة كل العصور من الطوائف الأخرى.
ولم يتورع عن قتل حوالي 40 ألفاً من أبناء حماة بوساطة أخيه رفعت الأسد، لأنه رأى فيهم خطراً على نظامه بسبب إسلامهم، وشرد آلاف النساء والأرامل والأسر الحموية في أرجاء الأرض، وفي الوقت نفسه صنع جيلاً من البصاصين وكتَّاب التقارير والجواسيس الذين يتجسسون على ذويهم وأقاربهم، وكانت النتيجة اكتظاظ السجون السورية ومراكز المخابرات بعشرات الألوف من الأبرياء، ومارس الجلادون ضدهم كل ألوان التعذيب والإجرام، والوحشية!
ولم يقصر نجله بشار عن ترسم خطاه، واستخدم كل ألوان القهر والعنف ضد الشعب السُّني، وخرجت طائراته تقصف المدن والقرى والمستشفيات والمساجد والمدارس والأسواق وطوابير الواقفين أمام المخابز، وكان الحصاد أكثر من مليون شهيد، قتلهم بالكيماوي والبراميل المتفجرة، والأسلحة الأخرى، وفي الوقت ذاته حرم الإسلام عملياً على المسلمين، فأخضع المساجد للأمن، وجعل إطلاق اللحية بموافقة أمنية! وعملت الآلة الإعلامية على وضع الإسلام في دائرة الإرهاب والدم والعنف، وبالطبع حَرَم من يُشتمّ فيه رائحة الإسلام الحقيقي، وليس إسلام البعث، من الكلام والتعبير والمشاركة في أي نشاط فكري أو ثقافي.
الأخطر من ذلك كله اللعب على وتر الأقليات وتشجيعها ضد الأكثرية أو ضد بعضها بعضاً، وهو ما رأينا بعض آثاره عقب انتصار الثورة السورية وهروب الطاغية إلى موسكو!
فقد هدد الدروز بالفيدرالية (التقسيم) إذا تم الاعتداء عليهم أو تغيير مناهج التعليم (بحذف الاحتلال العثماني)، وطالبوا بإقالة وزير التعليم، ودعوا إلى مظاهرات ضخمة للاحتجاج، بينما أعلن الوزير أن التغيير قاصر على حذف ما يتعلق بتمجيد الأسد!
لقد أصّل الغرب في نفوس الأقليات ثقافة تؤمن بإخضاع الأكثرية، وجعل مفهوم الأمن يطغى على مفهوم التعايش والتناغم؛ وهو ما دفع الطائفة النصيرية إلى الاستقواء بالقوى الخارجية (إيران، روسيا، التحالف الذي تقوده أمريكا وتبرز فيه فرنسا بوضوح).
وكانت الوفود الغربية التي زارت دمشق عقب انتصار الثورة تركز على حماية الأقليات ومشاركتها في الحكم، ولم يتردد وزير الخارجية الفرنسي في عقد لقاء مع من سماهم زعماء مسيحيين في دمشق.
بل إن بعض رجال الكنائس الغربية في البلاد العربية لم يخافتوا بإدانة الإدارة الثورية بعد سقوط الطاغية، واتهموهم بأنهم نصّبوا أنفسهم حكاماً على الشعب بدون اختيار ديمقراطي! وكأن قادة الثورة يجب أن يسلّموا السلطة على طبق من ذهب إلى الطوائف التي احتمت بالغرب وجيوشه، وفي الوقت نفسه يؤازرهم صعاليك الفكر الاستبدادي الذين يصفون الثوار بعصابات الإرهابيين «الداعشيين» ويحملونهم عربدة «إسرائيل» وعملياتها في تدمير مواقع سورية قبل سقوط الأسد!
يقول أحد الطائفيين: سمعنا أن الإدارة السورية الجديدة منحت 3800 من المجاهدين الأجانب جوازات سفر، ويتم تجنيسهم بالجنسية السورية، ثم يحرض السلطات العربية ضدهم بعد أن يشير كذباً أنهم قاموا في عدة مناطق بحرق «شجرة عيد الميلاد» بمناسبة احتفال المسيحيين بعيد الميلاد في 25 ديسمبر الماضي، والنتيجة كما يقول الطائفي المتعصب أنه قامت مسيرات مسيحية حاشدة ورافعة للصور الدينية والصليب لإعلان رفضهم لهذه الممارسات، ولم يشر صاحبنا إلى أن هؤلاء لم يتظاهروا ضد قتل الأكثرية بالنابالم والكيماوي والبراميل المتفجرة، ولكنه يشير من طرف خفي إلى أن المسلمين ليسوا أصحاب البلد.
ويؤكد أن البطاركة والأساقفة والكهنة هناك (في سورية) أعلنوها جلياً أن المسيحيين (10% من السكان) هم من أصل هذه الأرض وليسوا دخلاء وطالبوا بإعلاء شأن المواطنة، ونسي المذكور أن 90% من أهل سورية المسلمين لم يجدوا من يقف إلى جانبهم وهم يذبحون ولو بالكلام الإنشائي، وتركوهم لمصيرهم الذي عرفته الدنيا؛ قتلاً وتهجيراً وتشريداً وسجناً وتعذيباً، واضح أن بعض الطائفيين لا يستحون!
لقد التقى الطائفيون المتعصبون مع المناضلين الجوف من عباد الطواغيت والمستبدين على أن الشعب لم يثر على الطاغية، وأن هناك من جاء بالثوار إلى دمشق على جناح طائر الرخ ليجلسهم على كرسي المسؤولية، ثم التقى حديثهم عند الشراكة الوطنية، ورأوا أن الثورة ليست جادة في هذا السياق، وكأنهم يهددون الشعب السوري أو أكثريته بأن مصيرهم إلى صيدنايا ومكبسها الشهير مرة أخرى!
وحين يقول الثوار: إنهم يحتاجون إلى أطياف المجتمع كافة لبناء سورية التي خربها الطاغية تصنيعاً وزراعة وتجارة واقتصاداً وثقافة وروحاً ومادة، يقولون: إن الثوار يكذبون من أجل التمكين، وسيكونون طغاة بعدئذ.. هل يريدون مثلاً أن يشقوا صدورهم ليتأكدوا من صدق كلامهم؟
إن توحش الأقليات واستباحة الأكثرية يحتاج إلى موقف يعيد الأمور إلى نصابها!