يُطلق مفهوم «الوعي الجمعي» على المعتقدات والأفكار والمواقف المشتركة في مجتمعٍ ما، المؤثرة في سلوكهم الجماعي، وهو بذلك صورة من صور الترابط بين الأفراد، وباستطاعته تشكيل هُوية تعتمد على الموروث الثقافي والاجتماعي للعادات والتقاليد، والقواعد والقوانين، عبر التفاعلات والاتصالات الشفهية، أو من خلال وسائل الإعلام التقليدية والمستحدثة. ويؤثر «الوعي الجمعي» في التصرفات الجماعية بالسلب أو بالإيجاب، متماشيًا مع تطورات الزمن وتحوّلاته المجتمعية ومتطلبات الظروف السياسية والاقتصادية.
الإسلام يعظِّم من شأنه
يعظِّم الإسلام من شأن «الوعي الجمعي» الداعي إلى منهجية التفكير وتحرر العقل من أية قيود أو مؤثرات تورّط أتباعه في ثقافة القطيع، وقد عاب القرآن الكريم على أقوام سلكوا هذا المسلك فقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) (المائدة: 104).
وبهذا المعنى فإنه سرُّ بقاء أمتنا، وميزانها المنضبط، بعيدًا عن «سيكولوجية الجماهير» التي تبدو مندفعة في فترات التحوّلات انسياقًا وراء من يجيد دغدغة المشاعر، فتحدث –من ثم- اضطرابات مدمّرة تلحق الأضرار بالبلاد والعباد؛ يقول تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143).
يرتكز «الوعي الجمعي» في الإسلام على عقيدة التوحيد وما يرتبط بها من شرائع وشعائر، وما يعزّزها من قيم وأفكار تهدف إلى وحدة وتكافل وتعاون المجتمع أو الأمة.
إستراتيجيات تغريبية
لا تزال أمتنا تدفع كل يوم ضريبة باهظة جرّاء عدم وعيها بقضاياها المحورية، ففي الماضي القريب وقعت في قبضة المحتلّ الأجنبي الذي قضى على مقومات اليقظة في داخلها، ووضع إستراتيجيات تغريبية، نجح في تنفيذها إلى حد كبير، أدّت إلى تجهيلها أو تغييبها، وشكّلت عقلًا جمعيًّا زائفًا بعيد كل البعد عن أفكار الأمة وقيمها ومعتقداتها، بل دجّنها في مواجهة الدخلاء، وأضعف روح المقاومة والتحرر في نفوسها.
كما لا تزال الأمة –للأسف- تعاني من هذه السياسات، بتجاهل القضايا المهمة، في مقابل تسليط الضوء على قضايا وموضوعات تافهة، أو تقديم معلومات مغلوطة، أو تحريف الحقائق، أو اختلاق قضايا تقسّم المجتمع وتشتت انتباهه وتعزز الفرقة والانقسام.
متطلبات
مثلما يتطلب «الوعي الجمعي» لتنفيذه آليات، كمؤسسات وسائل الاتصال والتعليم -فإنه يتطلب من القائمين به، وهم أصحاب العقل البشري المنتج، الوعي واليقظة، وقبل ذلك: الصلاح والهداية في أنفسهم لما يرضي الله ورسوله ﷺ، وانضباط سلوكهم على هذا السبيل، وألا يفقدوا البوصلة فيفشلوا في أداء المهمة التي اضطلعوا بها؛ (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 73).
وفضلًا عن اليقظة والصلاح في القائم بمهمة «الوعي الجمعي»، وجب أن يكون نشطًا دؤوبًا لا يثنيه شاغل عن أداء مهمته، حاضرًا في موقعه، مرابطًا على ثغره، متابعًا جيدًا لمستجدات الواقع، محيطًا بكل ما يهدد الأمة ويعكِّر صفوها، مراعيًا مشاعر ورغبات وتجارب الآخرين، لطيفًا ودودًا متعاونًا مع الجميع، منضبط العاطفة، مثقفًا سريع البديهة، وإن لم يفعل فإنّ فاقد الشيء لا يعطيه، والثمرة بمقدار الجهد، وهذا ميدان رئيس من ميادين الجهاد، أُمرنا بأن نسد ثغراته ونعالج أخطاءه؛ (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: 110).
أداة مقاومة
يحمي «الوعي الجمعي» الأفراد من عواقب الجهل والتغييب، ويساعد في حماية وتطور المجتمع، ويصحح مسارات الأمة ويضبط سلوك أفرادها، معززًا شعورهم بالانتماء، منقذًا إياهم مما وقعوا فيه من أوهام. يقاوم «الوعي الجمعي» تلك الأنماط الشائعة والتي اتسمت بفراغ العقل، وقلة المعرفة، وعشق اللهو، وعبادة الملذات، والإقبال على الدنيا، والإدبار من الآخرة، غير واعين لعواقب تلك الحياة الصاخبة، ولما سوف تأتي به الأيام وهم على تلك الحال من الضحالة والاعتقاد بالوهم والخرافة واعتياد السير مع القطيع.
ولو بقيت المجتمعات على ما هي عليه من تعطيل العقل ومغالطة الحقائق وافتقاد القدوة الصالحة والتشويش على كل محاولة للتغيير، انحرفت بوصلتها عن هدفها المنشود وبغيتها المقصودة، وضلّت وأضلت، وبقيت في غيبوبتها وجهلها لا تبرح مكانها.. والحال هكذا تتأخر الكفايات وتتقدم النفايات، ويفشو الجهل وتسود الخديعة، ولا تسلْ ساعتها عن نجاح أو تقدم حضاري، بل يكون فشل يعقبه فشل وتردٍّ يتبعه أخوه حتى تداعى علينا الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.
«السوشيال ميديا» و«الوعي الجمعي»
لا يمكن طرح موضوع «الوعي الجمعي» دون التطرق إلى دور وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة في تشكيل الوعي العام وحصار جميع مظاهر الجهل والتغييب، وإن كان ذلك يتطلب مهاراتٍ ووعيًا إلكترونيًّا عاليًا لزيادة التفاعل والتواصل دون الإضرار بمسار الوعي الرشيد، والذي يُواجَه عادة بفتن واستهدافات على الشبكة العنكبوتية الحاشدة بمن يكرِّسون إستراتيجيات لرعاية واستبقاء هذه الحالة الموروثة من الجهل والتضليل.
واجبنا إذًا عند التعامل مع هذه الوسائل هو بناء وعي جماهيري، وابتكار مضامين على مستوى هذا الفضاء الذي لا نهاية له من المعارف والأفكار. وكلما كانت رسالتنا متحضرة، قائمة على المنطق، تظهر احترامها للآخر، استطعنا تقديم النموذج القادر على إنقاذ الآثم، وإرشاد التائه، وتنبيه الغافل، وإيقاظ الوسنان، وكسر حواجز الاحتكار الإعلامي التي تسلطت على الناس فأوردتهم موارد الهلكة.