البدء بالأيسر من الأحكام حتى يسهل على الناس تطبيقه ثم الارتقاء شيئاً فشيئاً حتى استيعاب بقية الأحكام، يعد من أوليات المفاهيم في السياسة الشرعية، وهو ما يطلق عليه التدرج.
والتدرج في السياسة الشرعية يعني: التطبيق الجزئي للأنظمة والقوانين الشرعية التي تهيأت الظروف المناسبة لها، وتهيئة المجال لتطبيق بقية الأحكام شيئاً فشيئاً(1)، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في العديد من المواقف إلى ضرورة التدرج، واتخاذه أساساً لقيادة الحياة وحسن تدبير الأمور، ويتبين ذلك فيما يأتي:
1- حرصه على عدم هدم الكعبة:
روى البخاري، ومسلم، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: «يَا عَائِشَةُ، لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ».
ففي هذا الحديث تأكيد على رغبته صلى الله عليه وسلم في إعادة بناء الكعبة على قواعد سيدنا إبراهيم عليه السلام، وحرصه على ذلك، لكنه لم يفعل هذا لأن العرب آنذاك لن يتحملوا هذا الأمر، وسيرفضونه بشدة؛ ما قد يعرض المجتمع المسلم للأخطار.
وفي هذا المعنى قال ابن تيمية: ترك النبي صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة لِلْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ وَهُوَ حِدْثَانُ عَهْدِ قُرَيْشٍ بِالْإِسْلَامِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّنْفِيرِ لَهُمْ فَكَانَتْ الْمَفْسَدَةُ رَاجِحَةً عَلَى الْمَصْلَحَةِ؛ وَلِذَلِكَ اسْتَحَبَّ الْأَئِمَّةُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ أَنْ يَدَعَ الْإِمَامُ مَا هُوَ عِنْدَهُ أَفْضَلُ إذَا كَانَ فِيهِ تَأْلِيفُ الْمَأْمُومِينَ(2)، وفي هذا إشارة إلى التدرج في باب السياسة الشرعية.
2- وصيته لمعاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن:
روى البخاري في صحيحه عَنِ ابن عباس قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حجاب».
في هذا الحديث دعوة إلى التدرج في دعوة الناس، لكن المتدبر في الحديث يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يوصي به من يرسله حاكماً على اليمن، ليبين أن هذه إشارات للحاكم في سياسة أمور الناس.
3- حثه على التدرج في تغيير المنكر:
روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ».
وفي صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ للَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ، يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ، يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بيده فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حبة خردل».
في هذين الحديثين تنبيه على أن تغيير المنكر يأتي على مراحل، فهناك مرحلة التغيير باليد، ومرحلة اللسان، ومرحلة القلب، ولا يجوز لإنسان أن يتجاوز المرحلة المناسبة إلى غيرها، حتى لا يقع في المحظور، من حيث أراد فعل المأمور.
4- نهيه عن زيارة القبور ثم الإذن بها:
روى أحمد في مسنده أحمد عن بُرَيْدَةَ بْنِ حُصَيْبٍ أن رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا؛ فَإِنَّ فِي زِيَارَتِهَا عِظَةً وَعِبْرَةً»؛ قال ابن الأثير: كان نهي النبي صلى الله عليه وسلم أولاً نهياً عاماً لقرب عهدهم بالجاهلية وشركها في عبادة الموتى والتبرك بقبورهم، فنهاهم عن زيارتها مطلقاً، ثم لما فقهوا التوحيد وعرفوا ما كانوا عليه في الجاهلية ومقتوه، أباح زيارة القبور، بشرط أن تكون لتذكر الموت والدار الآخرة(3).
5- أمره بالرفق في الدين:
روى أحمد في مسنده عن أَنَس بْن مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ»؛ قال المناوي: إن هذا الدين متين؛ أي صلب شديد، فأوغلوا: أي سيروا فيه برفق من غير تكلف، ولا تحملوا على أنفسكم ما لا تطيقونه فتعجزوا وتتركوا العمل والإيغال.
وقال الغزالي: أراد بهذا الحديث ألا يكلف نفسه في أعماله الدينية ما يخالف العادة بل يكون بتلطف وتدريج فلا ينتقل دفعة واحدة إلى الطرف الأقصى من التبدل، فإن الطبع نفور ولا يمكن نقله عن أخلاقه الرديئة إلا شيئاً فشيئاً حتى تنفصم تلك الصفات المذمومة الراسخة فيه ومن لم يراع التدريج وتوغل دفعة واحدة ترقى إلى حالة تشق عليه فتنعكس أموره فيصير ما كان محبوباً عنده ممقوتاً وما كان مكروهاً عنده مشرباً هنيئاً لا ينفر عنه وهذا لا يعرف إلا بالتجربة والذوق، وله نظير في العادات، فإن الصبي يحمل على التعليم ابتداء قهراً فيشق عليه الصبر عن اللعب والصبر مع العلم حتى إذا انفتحت بصيرته وأنس بالعلم انقلب الأمر فصار يشق عليه الصبر عن العلم(4).
___________________
(1) التدرج في التشريع والتطبيق في الشريعة الإسلامية: محمد مصطفى الزحيلي، ص 27.
(2) مجموع الفتاوى: ابن تيمية (24/ 195).
(3) جامع الأصول: ابن الأثير الجزري (11/ 154).
(4) فيض القدير: المناوي (2/ 544).