مع انتهاء الحرب الأخيرة على غزة، يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام واقع جديد مليء بالتحديات الجسيمة والفرص الضرورية لإعادة البناء، هذه الحرب، الأطول والأكثر دموية في تاريخ الصراع الفلسطيني-«الإسرائيلي»، خلّفت دمارًا هائلًا على كافة المستويات، حيث تضررت البنية التحتية بشكل كبير وترك أكثر من 1.5 مليون فلسطيني دون مأوى في ظل ظروف إنسانية خانقة.
في هذا السياق، تبرز الحاجة الملحة لإعادة إعمار غزة، ليس فقط لإصلاح المباني المدمرة، ولكن أيضًا لإعادة الحياة إلى طبيعتها، وتعزيز صمود السكان في مواجهة التحديات المستقبلية.
احتياجات ملحة
الحرب الأخيرة دمرت مئات الآلاف من المنازل والبنية التحتية، بما في ذلك شبكات المياه والكهرباء والطرق، السكان الذين نزحوا من منازلهم يعيشون الآن في مراكز إيواء مكتظة أو مع أقاربهم في ظروف صعبة، تفتقر إلى الحد الأدنى من الخدمات الأساسية.
تشير التقارير الدولية إلى أن إعادة إعمار غزة ستحتاج إلى ما لا يقل عن ملياري دولار كاستثمارات أولية لإصلاح الأضرار الأكثر إلحاحًا، في هذا السياق، تظهر أهمية العمل على تأمين تدفق المساعدات الدولية وتعزيز الشفافية لضمان وصولها إلى الفئات المستحقة، كما أن تعزيز القدرة المحلية على إنتاج مواد البناء قد يكون خطوة إستراتيجية لتقليل الاعتماد على الاستيراد الذي يعرقله الحصار.
إعادة الإعمار لا تقتصر على إصلاح ما دمرته الحرب، بل تشمل أيضًا النهوض بالاقتصاد المحلي الذي تأثر بشدة بسبب الحصار والحرب المتكررة، يعتمد غالبية سكان غزة على المساعدات الإنسانية بسبب تدمير القطاعات الإنتاجية، مثل الزراعة والصناعة، وإعادة تأهيل هذه القطاعات ضرورية لتحقيق الأمن الغذائي وتوفير فرص العمل، ويمكن أن تكون الزراعة المحلية نقطة انطلاق مهمة إذا تم تزويد المزارعين بالبذور والأسمدة والدعم اللازم لاستعادة الإنتاج، كذلك، يمكن تعزيز الاعتماد على الطاقات المتجددة في مجالات مختلفة، مثل تشغيل محطات تحلية المياه وتوفير الكهرباء؛ ما يقلل من الضغوط على الموارد التقليدية.
إعادة البناء السياسي والاجتماعي الفلسطيني
على الصعيد السياسي، كشفت الحرب عن عمق الانقسامات الداخلية الفلسطينية؛ ما أثر سلبًا على قدرة الفصائل على إدارة الأزمة بشكل موحد، المرحلة المقبلة تتطلب جهدًا كبيرًا لتعزيز الوحدة الوطنية، وهو أمر أساسي لتحقيق استقرار سياسي وإنساني في غزة، تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم كافة الفصائل الفلسطينية يمكن أن يشكل إطارًا حقيقيًا لتنسيق الجهود وإدارة المشاريع التنموية، وحكومة موحدة تعزز الثقة بين الفلسطينيين وتسهم في تحسين صورة القضية الفلسطينية دوليًا؛ ما يمكن أن يؤدي إلى استقطاب دعم أكبر من الدول المانحة والمؤسسات الدولية.
إطلاق حوار وطني شامل يمثل فرصة لتقريب وجهات النظر بين الفصائل، والعمل على صياغة رؤية موحدة للمستقبل الفلسطيني، هذا الحوار يجب أن يكون مدعومًا بمظلة دولية لضمان جدية الأطراف والتزامها بتنفيذ الاتفاقيات، المجتمع المدني أيضًا يؤدي دورًا مهمًا في تعزيز الوحدة الوطنية، من خلال مبادرات تقارب ومشاريع مشتركة تهدف إلى تحسين الحياة اليومية للسكان، وبناء جسور الثقة بين الأطراف السياسية المختلفة لا يقتصر على الكلمات، بل يحتاج إلى أفعال ملموسة، مثل وقف الحملات الإعلامية العدائية وإطلاق مبادرات تخدم المواطنين بشكل مباشر.
تعزيز الوحدة الوطنية لا يقتصر على الداخل الفلسطيني، بل يمتد إلى العلاقات مع الدول الإقليمية والدولية، والدعم الدولي يمثل ركيزة أساسية في إعادة إعمار غزة، ويحتاج الفلسطينيون إلى إدارة فعالة لهذا الدعم لضمان وصوله إلى مستحقيه، ويمكن للمؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي أن تؤدي دورًا في تقديم الدعم الفني والمالي، بالإضافة إلى ضمان الشفافية في تنفيذ المشاريع، في الوقت نفسه، العلاقات مع الدول العربية يجب أن تُستغل لتوحيد الموقف السياسي والضغط على الاحتلال لرفع الحصار وتخفيف القيود المفروضة على دخول مواد البناء والمساعدات.
التداعيات على الاحتلال
الحرب الأخيرة لم تترك آثارها فقط على الفلسطينيين، بل كشفت أيضًا عن نقاط ضعف كبيرة في الإستراتيجية الأمنية «الإسرائيلية»، يوم 7 أكتوبر 2023م كان بمثابة زلزال سياسي وأمني، حيث تمكنت المقاومة الفلسطينية من تنفيذ عمليات نوعية أثرت على الجبهة الداخلية «الإسرائيلية».
تعرض المدن «الإسرائيلية» لقصف مكثف وانهيار الثقة بين الحكومة والمجتمع «الإسرائيلي» أدى إلى تصاعد الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالتحقيق في أسباب الفشل الأمني.
الجبهة الداخلية «الإسرائيلية» أصبحت أكثر انقسامًا بعد الحرب، السكان في غلاف غزة والمناطق الحدودية يشعرون بأن الحكومة تخلت عنهم ولم توفر لهم الحماية الكافية، وتصاعدت الأصوات المنتقدة للجيش وللقيادة السياسية، وارتفعت الدعوات لإعادة تقييم النظرية الأمنية «الإسرائيلية» التي تستند إلى الردع والهجوم الاستباقي.
هذه الأحداث دفعت القيادة «الإسرائيلية» إلى إعادة النظر في أولوياتها الأمنية والإستراتيجية، بما يشمل تطوير أنظمة دفاعية متعددة الطبقات وتعزيز العلاقات الأمنية مع الحلفاء الدوليين.
على الصعيد الاقتصادي، تكبد الاحتلال خسائر تجاوزت 10 مليارات دولار نتيجة الحرب؛ ما أثر بشكل كبير على قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة، وإعادة بناء الاقتصاد بعد الحرب سيكون تحديًا إضافيًا لحكومة الاحتلال، التي تواجه ضغوطًا متزايدة لتقديم تعويضات للمتضررين وتحسين البنية التحتية الأمنية في المناطق الحدودية، وتصاعد الأعباء الاقتصادية قد يؤدي إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية داخل الكيان الصهيوني، وزيادة الاستقطاب بين مختلف شرائح المجتمع.
الحرب أيضًا كشفت عن تغير في ميزان القوى الإقليمي، حيث أصبحت المقاومة الفلسطينية أكثر قدرة على التأثير على الداخل الصهيوني، هذا التحول يفرض على الاحتلال إعادة تقييم سياساته تجاه غزة والعمل على احتواء التهديدات المستقبلية بشكل أكثر إستراتيجية.
ومع ذلك، تبقى التحديات كبيرة في ظل استمرار الانقسام الداخلي «الإسرائيلي» وتصاعد الضغوط الشعبية والسياسية لإجراء تغييرات جذرية في النهج الأمني والسياسي.
اليوم التالي للحرب على غزة يمثل لحظة مفصلية في تاريخ الصراع الفلسطيني-«الإسرائيلي»، وإعادة الإعمار ليست مجرد عملية مادية، بل فرصة لإعادة بناء المجتمع الفلسطيني سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وتعزيز الوحدة الوطنية، واستقطاب الدعم الدولي، والتعامل بفعالية مع التحديات الأمنية مفاتيح النجاح في هذه المرحلة، على الجانب الآخر، يعاني الاحتلال «الإسرائيلي» من آثار الحرب التي كشفت عن ثغرات كبيرة في نظريته الأمنية، مما يضعه أمام تحديات داخلية وخارجية جديدة.
يبقى الأمل معقودًا على قدرة الفلسطينيين على تحويل هذه الأزمة إلى فرصة للنهوض، والعمل نحو تحقيق استقرار مستدام يمكن أن يكون أساسًا لمستقبل أكثر إشراقًا، كما أن المجتمع الدولي يتحمل مسؤولية كبيرة في دعم جهود إعادة الإعمار وتعزيز حقوق الفلسطينيين في حياة كريمة ومستقبل أفضل.