بحسب بيان رسمي صادر من القوات المسلحة السودانية، فقد أعلنت أنها استطاعت تحرير مدينة «مدني» حاضرة ولاية الجزيرة بوسط السودان وتطهيرها من مليشيا «الدعم السريع» المتمردة، صباح السبت 11 يناير 2025م، وأنهى الجيش الوطني السوداني بذلك 13 شهراً من سيطرة المليشيا المتمردة التي دخلت مدينة «مدني»، في ديسمبر 2023م، وقد تناقلت الأجهزة الإعلامية صوراً حية لمظاهر الفرحة الغامرة للسودانيين التي عمّت مدن السودان وبعض العواصم العربية، بل والأوروبية؛ ابتهاجاً باسترداد «مدني».
تطويق ومعارك ضارية
وكانت القوات المسلحة السودانية قد طوّقت مدينة «مدني» من 3 جهات، وتحركت قوات الجيش من الجنوب من ولاية سنار، ومن منطقة المناقل غرب ولاية الجزيرة، ومن منطقة البطانة المتاخمة لولاية القضارف من الشرق؛ حيث أطبقت هذه القوات الحكومية والقوات المساندة لها على مدينة «مدني» ودخلت مقر الفرقة الأولى بوسط المدينة بعد معارك لم تستمر كثيراً مع قوات المليشيا المتمردة.
واستقبلت جماهير مدينة «مدني» قوات الجيش بفرحة غامرة وحشود كبيرة ملأت شوارع المدينة ترحيباً بإنهاء وجود المليشيا المتمردة التي أذاقت مواطني الولاية الأمرّين أثناء سيطرتها عليها، وأبرزت وسائل الإعلام السودانية كمية من الأسرى كانت تحبسهم المليشيا المتمردة وهم في حالية سيئة من أثر الجوع والمرض.
وغنمت القوات المسلحة كمية من الأسلحة والمعدات المتطورة كانت بحوزة المليشيا المتمردة، حيث استلمتها بحالة جيدة بعد أن فرّ عنها عناصر «الدعم السريع» عندما رأوا حشود القوات المسلحة تُطبق عليهم من كل جانب.
ومن مفارقات الأحداث في السودان، أن أبو عاقلة كيكل، وهو قائد قوات شعبية محلية تسمى «درع السودان»، قد كان متمرداً مع مليشيا «الدعم السريع»، ومكّنها من سقوط «مدني» ودخل بنفسه مقر الفرقة الأولى؛ ما ساهم في تمدد المليشيا المتمردة في ولاية الجزيرة، لكن كيكل هذا نفسه قد انحاز إلى جانب الجيش قبل شهور وانخرط في معارك ضارية ضد «الدعم السريع» في ولاية الجزيرة، وانتهت بدخوله هو نفسه إلى مقر الفرقة الأولى بـ«مدني» مع القوات المسلحة.
إقرار بالهزيمة
وأبرزت أجهزة الإعلام تسجيلاً صوتياً قيل: إنه لقائد «قوات الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أقرّ فيه بهزيمة قواته في مدينة «مدني»، وأعلن أنه سيعود للسيطرة على عليها مرة أخرى، وادّعى في التسجيل، محاولاً تبرير الهزيمة وكسب التعاطف، أن قوات من «التجراي» الإثيوبيين قد شاركت في القتال مع القوات المسلحة السودانية!
فبالإضافة إلى أن هذا الادعاء عارٍ تماماً من الصحة، فإنه قد بات من الحقائق المؤكدة أن المليشيا المتمردة قد استعانت بمرتزقة من خارج السودان من إثيوبيا ودولة جنوب السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى، بل من كولومبيا، واتضح ذلك من الأسرى الذين أسرتهم القوات المسلحة، ومن خلال القتلى في المعارك، ومن الوثائق الثبوتية التي وجدت بحوزتهم وعرضتها أجهزة الإعلام.
فقد كان من أهم أهداف المليشيا المتمردة توطين سكان أفارقة في الأراضي السودانية بعد طرد سكانها منها، وهذا المخطط بات مكشوفاً بالأدلة والوثائق وبالممارسات العملية لـ«الدعم السريع»، ولكن في النهاية تمكن الجيش الوطني من إجهاض هذا المخطط، وساعد في ذلك وعي الشعب السوداني والتفافه حول قواته المسلحة.
وفي محاولة يائسة من مليشيا «الدعم السريع» لإثبات الوجود ولصرف الأنظار عن الهزيمة الساحقة التي تكبدتها في «مدني» قصفت بواسطة مسيّرات محطة لتوليد الكهرباء بمدينة مروي شمال السودان، التي يوجد بها «سد مروي» بعد يومين فقط من استرداد «مدني»؛ ما تسبب في انقطاع الكهرباء ببعض الولايات لساعات، لكن سرعان ما تمكّن المهندسون من إصلاح العطل.
استرداد الخرطوم مسألة وقت
دخول القوات المسلحة والقوات المساندة لها إلى مدينة «مدني» حاضرة ولاية الجزيرة يعني أن الحرب ضد المليشيا المتمردة في نهاياتها، فهي تعني أولاً استعادة المدن والقرى والبلدات التي دخلتها «الدعم السريع» وتطهيرها، وقد بدأ ذلك فعلاً من اليوم الثاني لاسترداد «مدني»؛ إذ توغل الجيش جنوباً وحرر الحصاحيصا ورفاعة وعدداً من القرى التابعة لهما، وما زال يواصل توغله.
أما النتيجة الأكبر لاسترداد «مدني» تشير إلى أن استرداد العاصمة الخرطوم أو بعض البؤر التي تتواجد فيها المليشيا أصبحت مسألة وقت، وسيتم طرد «قوات الدعم السريع» نهائياً من العاصمة الخرطوم، ولهذا دلائل كثيرة، منها أن قوات الجيش السوداني حاصرت مصفاة الجيلي في ذات يوم استرداد «مدني»، التي تعتبر القيادة العامة للقوات المتمردة في ولاية الخرطوم، وكانت تنطلق منها لتهديد ولاية نهر النيل ومناطق أمدرمان وشرق النيل، بل وحتى ولاية الجزيرة.
إن استرداد مدينة «مدني» ثاني أهم المدن السودانية بعد العاصمة الخرطوم يعني بداية النهاية لقصم ظهر القوة العسكرية لـ«قوات الدعم السريع»؛ إذ لم يتبق للمليشيا المتمردة من وجود مؤثر إلا في غرب السودان بولايات دارفور، وهذه أيضاً حدث فيها تقدم واسع للقوات المسلحة في بعض المحاور المهمة.
المبادرة التركية
وسياسياً، ينتظر المراقبون نتائج المبادرة التركية التي أعلن عنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الشهر الماضي، وقام نائب وزير الخارجية التركي بزيارة إلى بورتسودان أوائل هذا الشهر، والتقى بالمسؤولين السودانيين حولها، وهذه المبادرة لم تتضح معالمها بعد، لكن من المؤكد أن السودانيين لن يقبلوا بأي وجود عسكري أو سياسي لمليشيا «الدعم السريع» المتمردة في المشهد السوداني مستقبلاً.