كاتب المدونة: زيني محمد لامين (*)
قبل أن نتحدّث نبارك لهذا الشعب المقاوم الثائر انتصار ثورته العطرة، المُبهرة التي أبْهرت العالم بإقدام شُجعانها، بتضحياتهم طلبًا للحرية، وسريان للعدالة الاجتماعية، شعب حكيم بحكمته المنقطعة النظير، وبإنسانيته النادرة جسّد اليوم واقع «اذهبوا أنتم الطلقاء» أمام من سحقهم، دمّر بلدهم، أحرق أخضرهم، وسوى بالبراميل المتفجّرة بنيانهم مع أجسادهم أظهروا أرقى قيم الإنسانية التسامح، والعفو، والرحمة في حين كان بإمكانهم رد المعاملة، أخذ الحق القصاص، لكنهم فضلوا التسامي تغليب الحكمة.
نبارك ونشارك الفرحة، وفي خضم البهجة العارمة نود أن نتطرق إلى نقاط في نظرنا هي أفضل ما يمكن أن نتطرق إليه في أجواء كهذه أجواء الفتح والتمكين، أفضل ما يمكن أن نحكي ونردّد على مسامع أشقائنا في الياسمين الزّكي.
احذروا هذه المجالات.. وسائل الطواغيت
رحل الطاغية وهذه وحدها نعمة تستوجب السّجود حمدًا وشكرًا، لكن هذا الدكتاتور ليس وليد اليوم ولا نكرة سياسياً، جثم سنوات مديدة على سدة الحكم، تولّيه للحكم في الشام كان نتيجة ميراث، نتيجة توصية، تخطيط وتدبير؛ أي أنه ممتد سياسيّاً واجتماعياً وثقافياً، وحتى اقتصادياً؛ وبالتالي هذا لا يمكن تجاوزه ولا يمكن تجاوز مآلاته، هذا الإرث المطب سيكون حجر عثرة في مسار البناء والتعمير إن لم ننتبه ونأخذ بالفعل ورد الفعل، وفي ذلك على سورية الثورة أن تأخذ بالحيطة والحذر تجاه المجالات التالية، وأن تسن ما يؤمن دربها المستقبلي من هذه المتربّصات، في قادم الكلم سنناقش هذه المجالات بشيء من التفصيل.
السياسة
السياسة وما أدراك ما السياسة من المَعالي المُعليّات، بعلوّها ورشدها تعلو الأوطان وبدنوّها وسفسافها تنحدر، وتنحط الأوطان، لذا وأكثر على الثوار في الشام أن يحذروا تجاه هذا النسق، ومن الحذر أن تُقيم الثورة محاكم عقاب لمجرمي السياسة، محاكم تُعاقب بقدر الإجرام، لا رحمة فيها لمن خطّط ودبّر ونفّذ عمليات الإجرام ضد الشعب الإنسان السوري، هذه نقطة.
أما الثانية؛ فهي عدم السماح لعودة أي شكل من أشكال النظام البائد لا عقوله الشائخة ولا شبابه المتفّه، ولا شُبه نظمه ولا قوانينه ولا أحزابه ولا شعاراته وهنا نفتح المجال لمحاكم التفتيش لتفتش بنباهة وعين متيقظة لا ترمش عن أي صورة مشابهة للقديم وهذا بدهيًّا؛ لحياة الجديد، لسلامة المولود الجديد.
أما الثالثة؛ فهي أن تسلم الحياة المدنية من الأجواء العسكرية، أكبر خدمة قد تقدّمها الثّورة لشعوبها أن تُعيد العسكر إلى حيث يجب، الحدود هناك تصرخ وتنادي: أين حماة الوطن؟! الوطن ينتهك ويخرب وتتربص به الدوائر من هنا من هذا الثغر، من هنا يُصبح الوطن خبر كان، أما هناك المدينة فلا علاقة للعسكر بها نهائياً، هي مكان لحياة المواطنين وفق نسائم المدنية، ووفق نواميس الإنسانية، مكان ليعيش المدني بحريته، بكرامته بعيداً عن نقاط غطرسة الجنود، جغرافياً تفسح المكان والزمان للمدني ليبني ويشيّد وفق عقله المدني فحسب، تتشوّه المدينة حقًا بمظاهر العسكرة، وتتزيّن وتزدهر بمظاهر المدنيّة.
أما الرابعة؛ فهي نقطة ذات أهمية بمكان، وهي أن تَمسح روح الشباب المعطاءة القيادة، وأن تُفعّل روح المسؤولية تجاه مقدّسات الأمّةِ، بمعنى أن تحاولَ الثورة قدر المستطاع أن تكون القيادة شبابية، فالشباب هم من فجروا الثورة؛ وبالتالي هم من يستطيع بناء الدولة، الكهول بصدق اكتفوا، كفاهم ما أخذوا من حياة هذه الأوطان، آن الأوان للسواعد الشبابية والعقول الفتية أن تسيّس ما قدّمت له أرواحها قرباناً، أثمن ما يُمكن أن نطرح إن لم يتسيّد الشباب ويأخذ بزمام الأمور، ويُدير ما بعد الثورة، ويُمنح كلمة الفصل، فلا معنى للحديث عن أيّ جديد، بل لا جديد يذكر إنّما هي حليمة بزيٍّ مختلف.
وفيما يخص روح المسؤولية تجاه مقدّسات الأمة، نقصد بذلك أن تجعل القيادة القضية الأم فلسطين قضية عقيدة لا سياسة، وقضية أمن قومي لا قضية جوار، فمساسها من مساس الأمن الوطني وفي الحقيقة هذا هو الواقع الماثل؛ لأن هذا الكيان وجد ليخلد ويتمدّد، لذلك جعل فلسطين ضمن خارطة الأمن القومي ضرورة لا مفر منها، خطوة استباق دفاعي.
الإعلامية
لا يخفى على إنسان اليوم محوريّة الإعلام، كما لا يخفى على مواطن الدول المتألمة الآسنة في وحل الطغيان من كان يدير ويتحكم في هذا الإعلام، المتّفق عليه أن هذا الإعلام ما كان سوى مجرد مرآة عاكسة لأكاذيب وأباطيل، وتشوّهات، وأمراض الدكتاتور المتكرّر في رُقع الآسنة، كم تفّه به من مواطن! كم شوّه به من قيم! كم حرّض به! كم نشر به من فسوق وفجور! كم خدّر به من عقول!
لذلك، على الثورة أن توليها اهتماماً بالغاً (وسائل الإعلام)، تُخصّص لها عقول فطنة، عاقلة، مثقفة، متوازنة، أن تتمكن منها وتخلّصها من الشاشات السوداء الوجوه المتلونة، التعيسة، الأبواق المأجورة التي كانت عبر مختلف الوسائط، والمناسبات تُسبّح باسم الظالم، في هذه المرحلة لا مكان نهائياً لمن له سوابق إعلامية إجرامية خاصة منها السياسية والثقافية، والإعلامية.
وأن تحرص الثورة على أن تُقدّم إعلاماً حقيقياً، يحترم الإنسان ويقدره، يعرض تطلعاته وأحلامه، وجهات نظره المتباينة، ومعاناته وآراءه بكل تجرد، أن يكون وسيطاً حقيقياً بينه وبين السلطة ومؤسساتها، كما أنه يدعم القيمة والمعنى والجمال، يرقى بالذوق العام، يُجافي التّفاهة والخلاعة التي كانت قوت ومازوت إعلام الطاغوت، كما يسعى أن يبث قيم التعايش والأفكار الجامعة بين طبقات المجتمع العديدة.
الثقافية
الثقافة مصدر من مصادر الطاقة لدى المجتمعات، فالدول تتقدّم اليوم بمستوى الثقافة لا بمستوى براميل المازوت ولا مساحات الجغرافيا، فالدولة ابنة إنسان مثقف، والثقافة استثمرت فيها الدكتاتوريات حتى اشتكت، فبكت، لكن أي استثمار وأي ثقافة لقد دمّرت العلم من خلال مناهج لا علاقة لها بالعلم سوى صوره وأشكالها، وتفّهت مادة الثقافة، وخرّبت رجال الثقافة من خلال تقديم أشباههم للعامة ليهدموا ما تبقى من صالح، لقد عانت الثقافة وما زالت تعاني إلى اللحظة، تسيّد أشباه رجال الثقافة مؤسسات ذات أهمية ثقافية فراحوا يعبثون بها، وفيما يخدم سيدهم ينشطون، ويبدّدون، مؤسسات تُكرّس ثقافة التبعية، الكسل، الدونية، وسوء الأخلاق، لا علاقة لها بهم وتطلعات المواطن غايتها ومسعاها أن تخدر الشعب من أجل رماد السيد.
الثورة ثقافة بنسبة 99%؛ لذلك هي أمام تحدّيات جسام فيما يخص حقيبة الثقافة، أن تأخذ بلجام هذه المؤسسة، أن تَعمل بكلّ جهدِ جهيد من أجل تقديم ثقافة مغايرة تماماً، ومثقّفين بحق وحقيقة، الشعوب في حاجة ماسة إلى ثقافة حقيقية، ثقافة ذات قيمة، تقدم قيماً، تجعل من الإنسان إنساناً، ثقافة تصنع لا تستورد، ثقافة من الشعب وللشعب لا مكان فيها للسيد والعبيد، الكل سواسية في بناية الوطن الشامخة، لا مكان فيها للأباطيل ولا للسحرة، ثقافة تبهرج معالم الحياة، تطور العقول، تطبّب القلوب، تَرقى بالفنون، تصنع لنا مبادرين مناضلين، مثقفين تتبع أثرهم السلطة ولا يتبعون، يُجيدون قول: لا حين تحيد أو تزيغ، ثقافة تزين مختلف الشاشات بالمواد الدسمة، المكوّنة، المجمّلة.
______________________
(*) ناقد اجتماعي جزائري.