أ. د. رجب أبو مليح (*)
هل ما حدث في غزة خاصة، وفلسطين عامة يستحق التضحية بهذه الدماء وهذا الدمار الذي لحق بالأنفس والأموال، هل ما فعلته المقاومة هو عين الصواب أم كان يمكنهم الانتظار حتى تقوى شوكتهم ويشتد ساعدهم ويقاتلوا اليهود المغتصبين فيهزمونهم، وما الفائدة إذا كانوا سيقبلون بالصفقة؟ إنهم عادوا لما هم عليه، لا فلسطين حررت ولا المسجد الأقصى طهر من الصهاينة، بل فقدوا عشرات الآلاف من الشهداء، وأكثر من مائة ألف مصاب، وفقدوا المنازل والمستشفيات والمدارس والجامعات وشبكات المياه والصرف والكهرباء وكل شيء.
وأبادر فأقول: فما زالت الحرب قائمة سواء أتمت هذه الصفقة – وهذا ما نرجوه تخفيفًا عن الناس حتى يلتقط المحاربون أنفاسهم- أو لم تتم -لا قدر الله – وهذا من الأمور الكبيرة والنوازل الضخمة لا يمكن للفقيه أيًّا كان قدره أن يُصدر حكمًا نهائيًّا وباتًّا إلا بعد انتهائها، بل تحتاج إلى اجتهاد جماعي يضم الفقهاء ورجال السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون وغيرهم، (وعند الصباح يحمد القوم السرى)، لكن يمكننا أن نتحدث بهذه الضوابط التي يمكننا الإفادة منها والزيادة عليها أو النقصان، سواء في حادثة السؤال أم في غيرها:
أولا: لا تدّعي المقاومة ولا غيرها العصمة من الخطأ، ومن المؤكد أنهم يقيِّمون هذه التجربة الصعبة كل فترة وقد يصلون بعد التقييم إلى أنهم لو فعلوا كذا لكان أفضل، ولو قدّموا كذا أو أخّروا كذا لكان مستحسنًا، وهذا واجب على المقاومة بكل فصائلها وواجب على المنصفين من أبناء الأمة إجراء هذا التقييم الذي يعقبه التقويم والإفادة من الصواب والخطأ ومن نقاط القوة والضعف.
ثانيًا: أيًّا كانت نتيجة هذا التقييم سواء أصابت المقاومة أم أخطأت فهي في دائرة الاجتهاد السائغ والمقبول، الذي يأخذ صاحبه أجرًا واحدًا إن أخطأ، وأجرين إن أصاب.
ثالثًا: قد اجتهد المعصوم صلى الله عليه وسلم ومعه خير القرون؛ الصحابة رضوان الله عليهم، فأصابوا أحيانًا وأخطأوا أحيانًا والذي صوّب لهم الله سبحانه وتعالى في قرآن يُتلى إلى يوم الناس هذا.
رابعًا: أخطأ بعض الصحابة رضوان الله عليهم عندما نزلوا من على جبل الرماة وكانوا سببًا في الهزيمة في أُحد، وهذا اجتهاد غير سائغ ولا مقبول، لكن النبي لم يحكم عليهم بالكفر والفسق، وسجّل عليهم القرآن هذا الموقف فقال: ﴿أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران: 165).
وحدث ذلك في قضية أسرى بدر، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر جلسا يبكيان بعد هذا الوعيد الشديد من الله تعالى: ﴿لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (الأنفال: 68).
خامسًا: اتفق الفقهاء على أن النبي صلى الله عليه وسلم – وهو من هو- معصوم في أمور التبليغ، لكنه ليس معصومًا في أمور الدنيا وقد ينتصر أو يُهزم، وقد يقول فيستدرك عليه الصحابة وحدث ذلك في مواقف كثيرة منها الوقوف في غزوة بدر ومنها ما فكّر النبي فيه من مصالحة غطفان على جزء من ثمار المدينة في غزوة الأحزاب وغيرها.
سادسًا: إذا استوعبنا هذا كله وانتقلنا إلى هذه النازلة موقع السؤال فلا بد من وضع تصور لها، ومن ثم تكييف فقهي، وبالتالي يسهل الحكم الفقهي عليها، ونستعين بالله تعالى ونحاول فعل هذا في الأسطر التالية:
- التصور: حالة اعتداء من دولة صهيونية متمردة أخذت الأرض واعتدت على كافة المقدسات في ظل صمت، وإن شئت فقل: تواطؤ إقليمي ودولي وعالمي.
- التكييف الفقهي: هذه الحالة التي يسميها الفقهاء جهاد الدفع، وهو الذي يُعتدى فيه على المسلمين من قوى خارجية احتلت الأرض واعتدت على كافة المقدسات.
- الحكم الفقهي: رد هذا الاعتداء واجب على المسلمين الذين يسكنون هذه الأرض الدفاع عن أرضهم ومقدساتهم، ويخرجون جميعًا رجالاً ونساءً كبارًا وصغارًا، حتى تخرج المرأة بغير إذن زوجها والولد بغير إذن والديه، والمدين بغير إذن دائنه، فإن قام به واجب الكفاية واندحر العدو من أرضهم فبها، وإلا وجب الدفع على أقرب الناس إليهم، وتتسع الدائرة حتى تشمل كل مسلم على ظهر الأرض.
سابعًا: هذا محل إجماع الفقهاء في حكم جهاد الدفع، وتوافق النظم والقوانين الدولية الشريعة الإسلامية في هذا حتى قال بعض قادة الجيش الصهيوني الذين أنهو خدمتهم أنه لو مكان أهل فلسطين لقام بمثل ما قامت به المقاومة!
ثامنًا: ما فعلته المقاومة الإسلامية لا يخالف الشريعة ولا القوانين الدولية قيد أنملة، وبالتالي لا نستطيع أن نخطئهم في المبدأ، قد نختلف نحن أو غيرنا في التفاصيل من حيث الزمان والمكان، أو من حيث الطريقة التي تم بها الدفع، لكن هذا لا يبطل الحكم الأصلي والأساس، وهو وجوب جهاد الدفع وجوبا على الكفاية.
تاسعًا: يمكننا القول أن المقاومة الإسلامية لم تتوقع هذا الخذلان من محيطها العربي والإسلامي والدولي، وهذا صحيح وقد اعترفوا به وكرروه من بداية الحرب، فعندما كان يُقتل بضعة فلسطينيين كانت الأرض تمور، وتقف الدنيا على قدم واحدة، أما في هذه الحالة فقُتل أكثر من خمسين ألفًا وجرح وأصيب أكثر من مائة ألف حتى كتابة هذه السطور، ولم تكن الحركة في بعض البلاد الإسلامية تتناسب مع الحدث، فعلينا أن نعترف بهذا ونقر به.
عاشرًا: من باب الإنصاف نقول أيضا لقد استطاعت هذه الدماء أن تجعل قضيتهم القضية الأولى على مستوى العالم وتفاعل معهم المسلمون وغير المسلمين خاصة في بلاد الغرب وأمريكا، وهي سابقة لم تحدث من قبل، نعم: لقد نالوا من هذا المحتل الظلوم ونال منهم، وأقاموا الحجة على الناس جميعًا أن هذا الجيش الذي كان يظن الناس أنه لا يقهر قابل للقهر والهزيمة على يد هذه الفئة القليلة المحاصرة فكيف لو اجتمعت عليه الأمة الإسلامية؟
حادي عشر: عدد الذين دخلوا الإسلام أو الذين تفاعلوا مع هذا القضية عدد لا بأس به، صحيح أنه لا توجد إحصائية معتمدة حتى الآن، لكن تواترت الأخبار من الشرق والغرب على دخول عدد من الرجال والنساء في الإسلام، ومن المؤكد أن فيهم شخصيات عامة مؤثرة، وهذه حياة حقيقية لهذه الأنفس التي كانت على ضلالة، فأحياها الله بسبب هذا الصمود الذي لا مثيل، فإن كانت فقدت أنفسٌ في سبيل الله فقد أحيا الله بها أنفسًا أخرى ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾.
ثاني عشر: إحياء فريضة الجهاد في نفوس ما يقرب من ملياري مسلم، وهذه فريضة غالية كانت غائبة أو مغيبة، وإذا كان حفظ الدين مقدمًا على حفظ النفس في سلم الأولويات في الشريعة الإسلامة، فإن الجهاد في سبيل من أهم الأسباب التي تحفظ بها مقاصد الشريعة جميعًا، حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وهذا يحتاج إلى موضوع مستقل.
ثالث عشر: حفروا في ذاكرة العالم عامة والمسلمين خاصة قضية مظلوميتهم، وقد رأينا المظاهرات ضد الصهاينة في أعرق جامعات العالم يقودها الأساتذة الكبار من شتى الجنسيات ولو أنفق المسلمون ملء الأرض ذهبًا ما استطاعوا أن يؤثروا في هذا العدد الهائل من البشر، وفي هذا تهون النفوس على الرغم من نفاستها عند الله وعند الناس.
رابع عشر: استطاعت المقاومة بصبرها وجهدها وجهادها أن تبرهن على أن الصهاينة ليسوا أعداء لأهل فلسطين وحدها أو للعرب وحدهم، ولكنهم يمثلون (الشر المطلق) بتعبير الأستاذ الدكتور طه عبد الرحمن، فهم شر مطلق على البشرية جميعا، ولو اشتغل أهل الإعلام والمال والقانون والسياسة وغيرهم على هذه الفكرة وأستطعنا أن نقنع بها أحرار العالم لتغير الحال في العالم كله.
والحمد لله أولا وآخر وظاهرًا وباطنًا
والله تعالى أعلى وأعلم
______________
أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاة العالمية الإسلامية (ماليزيا)