منذ السابع من يناير الجاري يتابع العالم واحدةً من أكبر الكوارث التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية، في «كاليفورنيا»، إحدى أكبر ولاياتها مساحةً، والأكثر اكتظاظًا بالسكان والأكبر اقتصادًا، تلك الكارثة التي بدأت بسلسلة من حرائق الغابات ثم امتدت إلى المناطق الحضرية لتدمّر في طريقها كل شيء، خصوصًا منطقة «لوس أنجلوس»، الأكثر رفاهية واحتضانًا لمشروعات التكنولوجيا والصناعة.
وقد تفاقمت الحرائق التي لم يُعرف لها سبب ولم يتم السيطرة عليها حتى كتابة هذه السطور بسبب عوامل الجفاف وقوة الرياح وتَشَكُّلِ ما يُعرف بـ«دوّامات الهواء»، أدّت إلى مقتل العشرات ومثلهم من المفقودين، ودمّرت نحو ثلاثة عشر ألف مبنى، وأربعين ألف فدان، وأجلت نحو مائتي ألف شخص من منازلهم، وكلفت الميزانية الأمريكية حتى الآن ما يزيد على ثلاثمائة مليار دولار.
وهذا الحدث وغيره من الكوارث الطبيعية يدعو المؤمن إلى التفكّر فيه، واستلهام الرسائل الإلهية والدروس الربانية بعيدًا عن المراء الدائر حوله، ومن هذه الدروس:
قدرة الله تعالى وعجز الإنسان
يوقن المؤمن بأن الكون بكل ما فيه، ما يعلم وما لا يعلم، مسخرٌ لله وتحت قبضته، يأتمر بأمره ويسير بإرادته؛ (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ) [غافر: 81]، وأنه تعالى (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء: 23]، وأنه (إِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ( [الرعد: 11]، وأنه ينذر العصاة ويمهلهم؛ (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) [الإسراء: 59]، (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف: 168]، ولولا حلمُهُ تعالى الذي يسبق غضبَه لأفناهم أجمعين؛ (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا) [فاطر: 45].
فإن لم يرعوِ العصاة والجبابرة سخط الله عليهم، وأنزل عليهم أنواع العذاب بقدرته؛ (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ…) [الأنعام: 65]، (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ) [النحل: 45، 46]، وانتقام الله لا نظير له؛ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102].
ويوقن المؤمن أيضًا بعجز الإنسان ومحدودية قدراته أمام إرادة مولاه، متعظًا بنداء الله له؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) [فاطر: 15 17]؛ فإنه لا قدرة له على دفع المضرة أو جلب المنفعة إلا بإذن الله، فيتواضع لخالقه البارئ المصور، رب الأرض والسماوات، والموت والحياة، والمطر والرياح، والسيول والأعاصير، والزلازل والبراكين، والأوبئة والأمراض، وكل ما يحتويه الكون من ظواهر ومخلوقات؛ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [الرعد: 41].
فبما كسبت أيديكم
ويدرك المؤمن أن هذه الأحداث آيات دالّة على تأديب الله لعباده، جزاء ما اقترفت أيديهم؛ (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30]، وعقوبة على غرورهم وطغيانهم وقد بدّلوا نعمة الله كفرًا وجحودًا؛ (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا) [الكهف: 42، 43]، والله هو العدل القسط فلا يظلم أحدًا وإنما هم الظالمون؛ (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت: 40].
لقد عاتب الله تعالى أصحاب النبي ﷺ عقب أُحد إذ تعجّبوا كيف انهزموا وهم المؤمنون، فقال الله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165]، أي أن العذاب حالٌّ على كل من يخالف أمر الله، لا استثناء لأحد في ذلك، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبيُّ ﷺ إذا رأى مخيلةً في السماء، أقبل وأدبر، ودخل وخرج، وتغيَّر وجهُه، فإذا أمطرت السماءُ سُرِّي عنه، فعرَّفته عائشة ذلك؛ فقال: «ما أدري لعله كما قال قوم :فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِم..» [البخاري].
وما يعلم جنود ربك إلا هو
وإذا أراد الله عقاب قوم أرسل عليهم جندًا من جنوده ممن لا يحصيهم العدُّ ولا يحيط بعلمهم البشرُ؛ (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ…) [المدثر: 31]، (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [الفتح: 4]، وهم لا يُغلبون؛ (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 173]، ومنهم الملائكة؛ (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) [الأنفال: 12]، والإنس؛ (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء: 16]، وحتى الشياطين والجن كما قال ابن عباس.
ومن تلك الجنود: الرعب والخوف؛ (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ…) [آل عمران: 15] ، والطير والحجارة؛ (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) [الفيل: 3 5]، ومنها الطوفان والحيوان والحشرة؛ (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ) [الأعراف: 133]، والريح؛ (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) [الذاريات: 41]، والزلازل؛ (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [الأعراف: 78]، والصواعق؛ (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) [الذاريات: 44]، ولا يفرغ الله حتى يأتي وعده على القوم المجرمين؛ (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [الرعد: 31].
رسائل للتذكير
القرآن الكريم حاشد بقصص مَنْ قَبلنا ممن عُوقبوا بمثل هذه الكوارث؛ (فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ) [الأنعام: 6]، فمثلًا: قوم نوح؛ (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ) [الأعراف: 64]، وقوم عاد: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ) [فصلت: 16]، وقوم لوط: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود: 82، 83]، وغيرها من الآيات.
الواجب على أهل الإيمان
– أن يحذروا غضب الله؛ (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران: 28].
– وأن يردوا المظالم إلى أهلها؛ (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [النمل: 52، 53].
– وأن يراجعوا أنفسهم ويحسنوا توبتهم؛ (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة: 126].
– وأن يتدبروا الكونين، المنظور والمسطور؛ (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) [المزمل: 9]؛ كي لا يكونوا من الذين قيل فيهم: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف: 105].
وأن يستدفعوا البلاء بكثرة الاستغفار؛ (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33]، وأن يتقوا تلك الكوارث بالصلاح والإصلاح؛ (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117].
نسأل الله السلامة.