النبل في زمن الذئاب والأنذال
قال لي صاحبي يومًا، وهو يبدي الرثاء لحالي، وقد اطَّلع لقربه مني على كثرة سهام الغدر في أنحاء نفسي الموجعة في أعقاب سهم جديد: ألم يكن خطأً فادحاً أن لم تكن ذئباً في عالم الذئاب؟! أليس من سوء السياسة أن تحرص على أخلاق النبل وسط من لا يعرف النبل إلى أنفسهم سبيلاً؟ ألم أقل لك مراراً أن النبل لا يصلح رفيقاً في عالم تحكمه المصالح والأهواء والمطامع؟ ألا ترى معي أن النبلاء كانوا على مر التاريخ -وإلى اليوم- ضحية نبلهم؛ قبل أن يكونوا ضحية غدر الغادرين، وظلم الظالمين؟! ما معنى أن تكون فارساً نبيلاً وسط وحوش ضارية يتربصون بك الدوائر ليقتلوك أو يثبتوك أو يفتنوك؟ إن الحرص على أخلاق النبل والفروسية هنا قد تبدو غفلة وضرباً من البلاهة؛ أكثر مما تبدو زينة لصاحبها، وعنواناً على حسن الخلق وسمو النفس!
النبلاء من علامات صحة الحياة وأسباب عافيتها
قلت، ومرارةُ الخيانة الأحدث في مسيرة حياتي لم تزل تفتك بعلقمها بسويداء فؤادي، وأحسها كالخُنَّاق تمسك بتلابيب نفسي، وأجد مرارتها الكريهة في حلقي، وألمس بعضاً من الدموع السخينة التي تستدرها، وأدافعها موجعاً في عينيَّ، قلت: كلا يا صديقي، بل يبقى النبل والنبلاء دليلاً على إمكانية بقاء الخير نقطة ضوء زاهية متلألئة وسط الظلمات الدامسة، ولئن خسرت بنبلي شيئاً من حطام الدنيا، فيكفيني أن كسبت به نفسي، وراحة بالي، واطمئنان قلبي على المدى البعيد، ومن يدري؛ ربما كان ذلك مما كتب عليَّ ثمناً لصحبة الحبيب والصالحين الأخيار في الجنة، وأنعم بها عزاء مكافئاً.
نعم، إن لخيانات الخائنين، وسهام الغدر آلاماً شديدة؛ توشك أن تفتك بذوي النفوس الحية المرهفة، لكنها آلام عابرة تبقى ساعات أو أياماً ثم تمضي، لكن النبل في مواجهتها هو الذي تبقى حلاوته في النفس العمر كله، ولنا فيه من بعدُ عند رب الناس الرجاء في يوم عصيب تكون بعده الحياة الحقيقية.
لقد كان علي بن طالب رضي الله عنه مثالاً للنبل في مواجهة خصومه، فأين عليّ في محكمة التاريخ، وأين خصومه أجمعون؟!
النبل من مفاخر أمتنا عبر التاريخ
ولقد فتح المسلمون البلاد بنبل أخلاقهم قبل أن يفتحوها بحديد سيوفهم، وما عليك إلا أن تستدعي قصة فتح سمرقند، حين اشتكى أهلها أن قتيبة بن مسلم خدعهم حين افتتحها حرباً مع أنهم سلموها سلماً، فأحالهم الخليفة عمر بن عبدالعزيز إلى القاضي، وحكم القاضي الذي خلَّده التاريخ في عدله، ونبله بخروج المسلمين من المدينة، ثم ينذرون أهلها قبل مناجزتهم! وشده أهل المدينة وهم يرون كأنهم في حلم استعدادات جيش المسلمين ومبادرتهم الفورية لمغادرة المدينة تنفيذاً لقرار المحكمة، فأسرهم هذا النبل النادر من الخليفة والقاضي والقادة والجنود؛ فدخلوا في دين الله أفواجاً، وراحوا يتوسلون للجيش المسلم أن يبقوا بين ظهرانيهم، وأن يجدوا المخرج الشرعي لأصل المشكلة!
لقد كان النبل عبر التاريخ وفي كل الساحات، ولدى كل أمم الأرض، مفتاحاً لكل خير، وضماناً لكل رقي، أفلا يزيدنا هذا حرصاً على التمسك بأهدابه مهما كلفنا ذلك من تبعات؟!
إذا غاب النبل عن حياتنا غاب معنى عظيم من معاني إنسانيتنا التي نحن جميعاً أمناء عليها، وعلى استبقاء معانيها ليبقى للحياة قيمة تستحق أن تشرئب لها أعناق الأحياء.
قيمة النبل في زمن المادية الطاغية
لقد ضاعت أو بهتت كثير من القيم في مجتمعات اليوم؛ التي غلبتها النزعات المادية، وتنكب فيها البشر هدي السماء، وبقاء النبل والنبلاء دليل على أن هناك صوراً مثالية لم يزل بمقدور البعض أن يرقى نحوها، وهي من ثم دليل على عدالة السماء، وهي وحدها العزاء مما يلاقيه من دنياهم النبلاء.
ولأمرٍ ما؛ كان الأنبياء والصالحون -صناع التاريخ- من أهل النبل والشهامة، فرسان الأخلاق، لتبقى سيرهم نبراس هدي للسارين، وعزاء للمتعبين المجروحين.
إن النبل صعب المرتقى وعزيز، عزيزٌ؛ لأنه بلوغ المرء قمة مكارم الأخلاق ومجامعها، ويبدو النبل أكثر ما يبدو عندي في تلك الأخلاق المتعلقة بحقوق الآخرين، وهذه لا تكاد تكمل في صاحبها بغير كمال يكتسبه في أخلاقه الذاتية التي مدارها خاصة نفسه، وفي مقدمتها ما نعرفه بالأخلاق الإيمانية التي لُحْمتُها وسداها علاقة المرء بربه، ومدى استخلاصه نفسه من غوائلها طلباً لما عند الله وحده، وسعياً لرضاه، ومنها الإخلاص، والرضا، والقناعة، والتواضع، والإخبات ونحوها من أخلاق المؤمن الرباني.. إنها حلقات متواصلة يأخذ بعضها برقاب بعض، وهكذا يبدو النبل في ذؤابة ما يتحلى به المرء من أخلاق إيمانية ونفسية واجتماعية مما يضعه في مصاف الأفذاذ، صناع التاريخ أياً كان موقعه في زحام الحياة.