يفرض اتفاق الهدنة، ووقف إطلاق النار، في قطاع غزة، تحديات جسيمة، ليست فقط على مستوى إعادة الإعمار، وتأهيل البنى التحتية، وتشغيل المرافق والخدمات العامة، بل على مستوى الإنسان ذاته، رجلاً كان أو امرأة أو طفلاً، فقَدَ أحد ذويه في حرب الإبادة التي شنها الاحتلال الصهيوني المجرم، لأكثر من 15 شهراً على التوالي.
ومع توالي مواكب الشهداء هنا وهناك، تقف أسرة الشهيد على مفترق طرق؛ ما بين ألم وحسرة على فقدان أحد أفرادها، وتبعات نفسية واجتماعية واقتصادية وخيمة، ستتكبدها لسنوات وربما لعقود، مع فقدان المعيل (الزوج مثلاً)، وما يترتب على ذلك من ترمل الزوجة، وتيتم الأبناء، وفقدان السند والقدوة، وربما التفكك الأسري، واستمرار المعاناة.
قد تكون غزة مثالاً حياً على هذه المأساة التي يجب أن تتداعى الأمم والشعوب العربية والمسلمة وكل أحرار العالم للتخفيف من آثارها وتداعياتها، وفق برامج علمية، وخطوات مدروسة، وآليات فاعلة، تعمل على ترميم المجتمع الغزاوي، وغيره من المجتمعات التي توالت فيها مواكب الشهداء، سورية على سبيل المثال.
الكثير من دول العالم تقيم احتفالات تحت عنوان «يوم الشهيد» للاحتفاء بأسرهم، وتقديم الهدايا لهم، وتؤلف الأغاني للإشادة بهم، وتنظم المهرجانات لإدخال السرور إلى قلوبهم، لكن من المؤسف أن التفاعل المجتمعي قد يتوقف عند هذا الحد.
إن من الخطأ المتكرر في وسائل إعلامنا تسليط عدسات الكاميرات على وجوه أبناء الشهداء، وتكرار نقل هذه المشاهد والمشاعر الحزينة، وكأن قدر ابن الشهيد أن يُذكّر دوماً بأنه يتيم، أو أنه فقَدَ أباه، ومعه فقَدَ الحب والحنان والأمان؛ الأمر الذي يستلزم مواساة عملية، وإيجابية، تتجاوز المتاجرة بمشاعرهم الحزينة، إلى التفاخر بهم، وإشعارهم بفضل الرباط في سبيل الله.
ومن صور المواساة العملية، تخليد ذكرى الشهداء، وتقدير معروفهم، وتزيين الشوارع والمؤسسات الحكومية بأسمائهم، يا حبذا، لو نظمت الأمة يوماً خصيصاً للشهيد الفلسطيني، وجرى إطلاق اسم أحد شهدائهم على شارع أو ميدان في كل بلد عربي، بل في كل مدينة عربية، وقد ضحوا بدمائهم الذكية دفاعاً عن أولى القبلتين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
صور المواساة يجب أن تتطور وتزداد فاعلية، لتتجاوز تقبيل رؤوس أمهات الشهداء، والمسح على رؤوس أبنائهم، إلى دراسة عملية تستكشف خصائص ومشكلات واحتياجات تلك الأسر، وتأمين المسكن لها، وسداد الديون عنها، وتوفير مورد رزق لها، ورعاية أبنائها في جميع مراحل التعليم، والتكفل باحتياجاتهم النفسية والمادية، حتى يرد المجتمع جزءاً من جميل صنيع الشهيد، الذي قال عنه المولى عز وجل: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169).
ومن الإنصاف القول: إن بلدانا عربية وإسلامية خصصت صناديق لدعم أسر الشهداء من مواطنيها، ووضعت لها مخصصات مالية، ومعاشات شهرية، وقرارات بتكفل أبنائهم في التعليم والزواج وغيره، وهو ما يرجى أن يكون بشكل عاجل سلوكاً مجتمعياً شاملاً، ذات بُعد إقليمي ودولي.
إن الحاجة ماسة وملحة لإنشاء صندوق عربي لدعم أسر الشهداء في غزة، ورعاية أبنائهم، وتوفير منح دراسية لهم، والتكفل بزوجاتهم، وتقديم العون لهم على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، وتمكينهم من بناء واستعادة وضعهم المعيشي، بعدما لاقوه من مجازر بشعة، وقصف دموي، وحرب إبادة على مدار نحو 470 يوماً.
في العام 2009م، ونتيجة تزايد عدد الأرامل في قطاع غزة، جراء سقوط آلاف الشهداء، نظمت حركة «حماس» مشروعاً طموحاً لتزويج الأرامل، ومساعدة كل من يتزوج من أرملة شهيد بـ3 آلاف دولار، بهدف ضمان حياة مستقرة للأرملة، شريطة أن يكون ملتزماً دينياً وأخلاقياً، وأن يتكفل برعاية أبنائها، إن كان لها أولاد، وهي تجربة تكللت بالنجاح، ومن الواجب علينا العمل على تكرارها ودعمها، بشكل عاجل، لتعويض الفلسطينيين عما فقدوه من شهداء (نحو 50 ألف شهيد)، وزيادة عدد المرابطين ضد الاحتلال الصهيوني.
ومن صور التكريم المقترحة توفير أداء العمرة والحج لأسر الشهداء، وتعيين أبنائهم، وتأمين العلاج لهم، وإدراج بطولات ذويهم في المناهج الدراسية، وإنتاج أعمال فنية توثق ما قدموه من أجل العروبة والإسلام، وتنظيم المعارض السنوية التي تصور معاركهم، وتوفير الاستشارات والبرامج النفسية والاجتماعية لأبنائهم، وتهيئة البيئة المناسبة لهم؛ لتجاوز ما عانوه، والانطلاق نحو حياة جديدة مفعمة بالأمل والرغبة في النجاح والإنجاز.
ومن واجب الوقت في العام الجديد، إطلاق طوفان جديد، هذه المرة يستهدف المشاركة في إعادة إعمار غزة؛ حكومات وشعوباً، نقابات وأحزاب، منظمات رسمية وأهلية؛ أسراً وأفراداً، مع أهمية ابتكار آليات ووسائل جديدة لدعم الفلسطينيين، وإغاثة أسر الشهداء، ودعمهم بشكل حقيقي وعاجل ومستمر، فهبوا لإغاثة أسر الشهداء.