التشريعات الإلهية التي أنزلها الله تعالى على رسله هي العدل الدائم، والخير المستمر، لا يأتيه الخلل أبداً، ولا يُنقصه ريب المنون، وهي للناس كالهواء والطعام والماء للأجساد، فكما أن الجسد لا يصلح إلا بما خلقه الله لصلاحه، كذلك لا يصلح للإنسان في عيشه ومعاملاته إلا شرائع، وضعها من وضع ما لا تصلح الأجساد إلا به.
لم يحدث في أزمنة الناس قط أنهم رأوا أن الطعام لا يناسب أجسادهم فاستبدلوه بأكل الحجارة أو بجذوع الأشجار، ولم يحدث أنهم رأوا الماء للعطش أصبح لا يناسب الزمن، فاستعملوا للعطش حديداً أو معدناً يردون به غائلته.
إن الله تعالى خلق الناس وصورهم كيفما شاء، وجعل لهم ما يصلحهم في الدارين، ضمن للبارِّ منهم والفاجر أشياء، وجعلهم فيها سواء، وفرض شرائع، التزمها من الأمم قلة، ورفضها أكثرهم، وقد جرى الهلاك جرت في كثير منهما، خسفا تارة، وإهلاكًا وإبادة أخرى، والشرائع هي العصمة للناس، وقوام العالم، وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا، رفع إليه ما بقى من رسوم الشريعة، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، وبعض حملتها لم يحسنوا –للأسف– حملها، أو فوّتوا على أنفسهم الفوز بخيرها.
ظاهرة الخجل من التشريعات
غدا بعض المسلمين يشعر بالخجل من بعض أحكام الشريعة، خاصة إذا كانت تتعارض مع القيم الغربية أو العالمية السائدة، كالتي تتعرض لحقوق الإنسان أو المرأة على وجه الخصوص.
فقد تجد بعض النساء، بل وبعض الرجال –للأسف- يشعرن أو يشعروا بالخجل من التمسك بالحجاب في مجتمعات تعتبره تقليديًا أو غير عصري! والأمر يتعدى ذلك إلى الحدود المشروعة في مجال الجريمة، خاصة إذا تعلقت بالإخلال بإحدى الضرورات الخمس التي جاءت الشرائع بحفظها، وهي: الدين والعقل والنفس والمال والعرض، فالتعدي على المال بالسرقة شرعت له الشريعة حد القطع، والتعدي على العرض بالزنى فرضت الشريعة فيه الجلد والرجم بشرطه، وهي عقوبات تنظر لها العقلية التي تتبع وتنهج الثقافة الأوروبية بأنها قاسية لا تناسب الزمن.
كذلك النظر إلى الميراث، وغيره من العبادات كالصلاة والصيام، ففي المجتمعات المسلمة وغيرها، قد يصاب بعض المسلمين بالخجل من بعض العبادات والتشريعات، والسؤال هنا: لماذا يخجل بعض المسلمين من هذا؟!
أسباب وبواعث الخجل من التشريعات
للخجل من التشريعات بواعث، منها:
– ضعف الفهم الشرعي، فحين يغيب الفهم الشرعي للعقوبة أو الأمر بالفعل، أو التنظيم للمعاملة، يجد بعض المسلمين أنه لا يستطيع أن يبرر التزامه بذلك.
– الوقوع تحت تأثير ثقافة الغرب، وهي آفة الآفات في بعض المسلمين، فإنهم يظنون الحداثة والمدنية في تبني وجهة النظر الغربية تجاه الأفكار والتشريعات.
والغرب ثقافته تشيع فيها اللادينية على نطاق واسع، ومن ثم تجد للكثير من مفكريه، وبعض من يُنسب لهم ابتداء عصر النهضة خصومة بادية مع الأديان، وخصومة الغرب عموماً مع الإسلام شديدة لا يتخفى بها، وكثير من القيم الغربية ترفض بعض الأحكام الإسلامية، وتجاهر باضطهاد أصحابها والتضييق عليهم؛ ما يجعل بعض المسلمين مترددين في الدفاع عنها أو فعلها من الأساس.
– الإعلام السلبي نحو الإسلام، أصبح بلاء تعم به البلوى، حيث يصور الإعلام بعض الأحكام الإسلامية كأنها غير إنسانية أو متشددة؛ ما يجعل بعض المسلمين يشعرون بالخجل مما يلتزمون من شرائع، وبعض هذا الإعلام يتغيا كثرة المشاهدة، لا قناعة بما يتبنى من تصدير الزيف.
– ضغط الواقع الاجتماعي، ففي المجتمعات التي يغلب عليها الطابع العلماني أو الغربي، ينظر لبعض الأحكام الإسلامية على أنها نشاز أو متطرفة، وبعض المسلمين -تحت تأثير ضغط الواقع خوفاً من الانتقاد أو السخرية في تلك البيئات- ينبعث فيه الخجل، ويشعر حثيثاً برغبة في التأقلم مع هذا الواقع.
فقد تجد فتاة تمتنع، أو يمنعها ولي أمرها عن لبس الحجاب، في بلد مسلم، بسبب أن كل زميلاتها في المدرسة التي التحقت بها أو الجامعة غير محجبات، وتخشى هي، أو ولي أمرها، من سخرية المجتمع المحيط بها.
مظاهر الخجل من التشريعات
ينشأ الخجل من التشريعات عند من يشعر به بأسباب تستنبته في نفسه، وله مظاهر، منها:
محاولة التبرير الدائم؛ فبعض المسلمين حين يُسأل عن بعض الأحكام، تجده إما يصف تلك الأحكام بأنها قديمة! أو ليست مطبقة.
من ذلك تجنب المناقشة، حيث يعمد بعض المسلمين إلى تجنب الحديث عن بعض التشريعات حتى يتجنب النقاش حولها.
من ذلك أيضاً تخلي بعض المسلمين عن ممارس التشريعات، بعضها أو كلها، حتى لا يتعرض للانتقاد والتقريع من بعض من يعايشهم، وتصبح القيم الغربية مقياساً عنده لما يقبل أو يرفض لما يتشرع به، عبادة وأخلاقاً.
خطوات في طريق الحل
إن كل مشكلة لها حل يكون ملازماً لها، لكن الحلول كالأدوية بعضها ناجع، وبعضها ضعيف الأثر، وبعضها آثاره عكسية، وكثير من الخجلى، أو من ولاة أمرهم، يسأل كيف سبيل علاج هذا الأمر في الأبناء أو الرفقاء؟ ويمكن أن نشير إلى ما يلي:
أولاً: تمكين الفهم الصحيح للإسلام، وذلك بفهم الحكمة من وراء التشريعات الإسلامية، وبيان أنها تتناسب مع الفطرة الإنسانية.
ثانياً: تعزيز الثقة بالنفس، وذلك بتعليم المسلمين التمسك بدينهم، وأنه لا منقصة في التسليم لله فيما أمر.
ثالثاً: تفعيل الدور المجتمعي في التوعية، وذلك بمواجهة الصور النمطية والمفاهيم الخاطئة عن الإسلام من خلال الحوار البنّاء.
رابعاً: تعزيز قيمة الاعتزاز بالإسلام، وذلك بالتنبيه على أن الإسلام ليس مجرد مجموعة أحكام، بل نظام متكامل للحياة.
خامساً: توظيف الإعلام، بإنتاج محتوى يبرز الحكمة من التشريع، ويتولى الرد على الادعاءات السلبية بمنهج علمي، والتوعية بأن الالتزام بالشريعة لا يعني التخلي عن الحداثة أو التطور.
سادساً: تعلم الدين من المؤسسات التي تقدم الإسلام بطريقة السلف، التي عبَّر عنها الشاطبي بقوله: «من نظر كيف مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف، في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية، علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين، من غير ترتيب متكلف ولا نظم مؤلف، كانوا يرمون بالكلام على عواهنه، ولا يبالون كيف وقع في ترتيبه، إذا كان قريب المأخذ سهل الملتمس، هذا وإن كان راجعاً إلى نظم الأقدمين في التحصيل، فمن حيث كانوا يتحرون إيصال المقصود، لا من حيث احتذاء من تقدمهم(1).
ويمكن في سبيل ذلك الالتحاق بدورات تعليمية لتعلم أصول الدين وفهم مقاصد الشريعة، فعزَّ أن تجد مسلماً تلقى الإسلام تلقياً صحيحاً من أهله الراسخين يخجل من تشريع صحيح، أمرت به الشريعة أو نهت عنه.
على المسلم أن يعلم أن الإسلام كلٌ لا يتجزأ، وأنه لم يوضع على أهواء الناس وتقلبات أمزجتهم واختلاف عصورهم، وليس مطلوباً أن تتغير شرائع الإسلام وفق البيئات والعصور، ووفق الأعراف والثقافات، وليس لأحد أن يمنَّ على الله بإسلامه، بل المنة لله دائماً علينا، والإسلام يبني في صاحبه العزة بالاستسلام لله، وهو سبحانه وتعالى يقول: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) (آل عمران: 139)، وهذا في السلم والحرب على السواء، لا نهن ولا نذل، مهما كانت نتائج جهادنا، بالسلاح، أو بالأفكار وبالتزام التشريعات، فتظل شريعة الله تعالى دائماً هي الأعلى والأعظم، وأصحابها لهم من علوها بقدر تقيدهم واعتزازهم بها.
_________________
(1) الموافقات (1/ 28).