في بداية الحرب على غزة، وتحديداً في اليوم التالي لمعركة «طوفان الأقصى»، خرج رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو بخطاب الحرب معلناً أهدافها الثلاثة؛ القضاء على «حماس»، واستعادة الرهائن، وضمان ألا تشكل غزة تهديداً للأمن القومي الصهيوني، ولكنه بعد ما يزيد على 15 شهراً في أطول وأصعب حرب في تاريخ البلاد، لم يخرج ببيان النصر، بل جاء مرغماً لاتفاق وقف إطلاق النار مع «حماس»، فبدلاً من القضاء عليها وجد نفسه ينتظر ردها على الاتفاق.
وأخيراً، توقفت الحرب في غزة بعد أشهر طويلة من القتل والدمار والتهجير القسري، التي خلفت وراءها آثاراً إنسانية مأساوية وأزمات لا تُحصى، هذه الفترة الطويلة كانت مليئة بالألم والمعاناة للشعب الفلسطيني، الذي عانى من القتل والتشريد والنزوح والحصار والتدمير المستمر للبنية التحتية، وعلى الرغم من أن التحديات ما زالت قائمة، فإن وقف الحرب يشكل خطوة مهمة نحو استعادة الأمن وإعادة إعمار غزة، ويعكس رغبة الجميع في الوصول إلى حل دائم يضمن حقوق الشعب الفلسطيني وأمنه.
الاتفاق انتصار لـ«حماس» والمقاومة الفلسطينية وشعبها في غزة
لقد انتهت حقبة «طوفان الأقصى» ضمن صفقة طال انتظارها بسبب التعنت الصهيوني، وصمود المقاومة وحاضنتها الشعبية، التي عانت الويلات تجنباً للانكسار والهزيمة، حتى تحقق لها ما أرادت رغم الثمن الكبير الذي دفعته غزة من أجل كرامتها.
وتأتي هذه الصفقة التي تنص أبرز بنودها على وقف الحرب والانسحاب من غزة وعودة النازحين والإفراج عن الأسرى بالتزامن مع الأيام الأخيرة من ولاية الرئيس الأمريكي جو بايدن، وتسلم ترمب مهامه في 20 يناير 2025م، ورغم الجولات المكثفة من المحادثات في القاهرة والدوحة وباريس وروما طوال أشهر الحرب الطويلة، لم يعرف المسار التفاوضي منذ 7 أكتوبر 2023م سوى اختراق وحيد، تمثل في هدنة إنسانية استمرت أسبوعاً في نوفمبر.
وهذا الاتفاق يمكن النظر إليه من عدة زوايا مهمة لا يمكن القفز عنها لمعرفة الملفات التي عالجها، والإطار العام الذي تم ضمنه هذا الاتفاق، والرابح والخاسر منه، والأهداف التي حققها كل طرف، وكيفية النظر إليه بالنسبة لحركة «حماس» والمقاومة الفلسطينية أو بالنسبة للكيان الصهيوني.
أولاً: حركة «حماس» والمقاومة:
يعتبر هذا الاتفاق انتصاراً لحركة «حماس» والمقاومة الفلسطينية ولشعبها في غزة، لأنه جاء مغايراً لما أرادته دولة الكيان وحكومتها الفاشية ولمجريات الحرب، التي هدفت لعدم الوصول إليه حينما اتفقت القوى العظمى مجتمعة على «حماس» لإخضاعها بالقوة والحسم العسكري، وإنهاء عهد المعادلات معها وتفكيكها وشطبها وإخراجها من المعادلة السياسية ضمن خطتهم للشرق الأوسط الجديد، فإذا بهم بعد هذه الأشهر الطويلة لم يتوقعوا أن يصلوا إلى هذه النتيجة، ولم يتخيلوا أن تكون «حماس» هي الطرف المقابل لهم في المفاوضات وترغمهم على القبول بشروطها.
.. وحافظ على وضعية المقاومة كمشروع لم ينكسر رغم قوة الضربات
كما أن هذا الاتفاق حافظ على وضعية «حماس» والمقاومة السياسية كمشروع مقاومة لم ينكسر ولم ينهزم رغم قوة الضربات وقسوة الهجمات وفداحة الخسائر البشرية والمادية، وفرضها أمرًا واقعاً لا يمكن إغفاله أو القفز عنه عندما كانت الطرف الرئيس في الاتفاق مقابل الطرف الصهيوني وحلفائه الأوروبيين وإدارتين من الإدارات الأمريكية وأطراف وسيطة.
إن هذا الاتفاق بشروطه وبنوده انتصار لـ«حماس» وللمقاومة الفلسطينية، عندما أسقط خطة التهجير والترحيل، وأسقط خطة الجنرالات في الشمال، وأسقط آمال سموتريتش، وبن غفير، في الاستيطان في غزة، وأسقط نظرية الأمن الصهيوني لدولة الكيان وجيشها النازي الذي لم يحقق سوى القتل والتدمير ضد شعب أعزل ومقاومة لا تملك من معايير القوة سوى الإيمان بربها وقوة العقيدة والإرادة الراسخة بحقها في أرضها المغصوبة والمسلوبة.
لقد حقق هذا الاتفاق لـ«حماس» وللمقاومة الفلسطينية الندية في الميدان والقتال، عندما استطاعت أن تفجر دباباتهم وتنصب لهم الكمائن وتفخخ لهم المنازل وتخرج لهم من بين الأنقاض وتقتل العشرات من جنود النخبة والألوية، والندية في المفاوضات والقوة في فرض أجندتها وشروطها واستخدام الكلمات والمصطلحات وكشف مواضع الشَّرَك في الاتفاق، كما حقق لهم الصمود على الأرض والصمود في وجه الغطرسة الصهيونية والأمريكية والأوروبية التي رضخت أخيراً لشروطها والقبول بها.
ثانياً: دولة الكيان الصهيوني:
يمثل هذا الاتفاق أكبر هزيمة للجيش الصهيوني ودولته المزعومة، ويمكن فهمها من خلال تصريحات قادتها عندما أعلنوا قائلين: «إن «حماس» أسطورة لأجيال قادمة، ولقد انتصرت علينا بل على كل الغرب وصمدت في المواجهة، وأن هذه الحرب أطول وأصعب حرب في تاريخ بلادهم، سقط فيها ما يقرب من 1800 شخص، ولم يتحقق في نهايتها أي من أهداف الحرب، وأن نحو 250 أسيراً، بعضهم عاد، لكن في المقابل مصير البعض الآخر لا نعرفه أبداً».
وأضافوا: «إنه اتفاق سيئ ترك «حماس» منظمة حية وموجودة من الناحية العسكرية والمدنية، التي ستستمر في السيطرة على قطاع غزة بشكل أو بآخر، وأن دولتهم دخلت في منزلق خطر بتوقيع اتفاقية وقف إطلاق النار مع «حماس» في غزة، وبأنها تمتلك إستراتيجية منظمّة لإنهاء الحرب والوقوف على قدميها، وهي حركة مقاومة وستعيد بناء نفسها مهما استغرق الأمر، وأنها نجحت في إخفاء الأسرى رغم الحرب وطالما بقي الأسرى بيدها فهي تملك ورقة قوة».
استراتيجية «حماس» والمقاومة في عملية التفاوض:
– التفاوض من موقف القوة: دخلت المقاومة المفاوضات من موقع قوة، حيث استمرت في المقاومة والقتال رغم القصف الصهيوني والتوغل البري؛ ما جعل دولة الكيان تدرك أن التكاليف البشرية والسياسية والعسكرية قد تزداد إذا استمر التصعيد.
– الاستنزاف العسكري: نجحت المقاومة في استخدام الأرض التي يسيطر عليها الجيش الصهيوني لصالحها، واعتمدت على الهجمات المتواصلة وحرب الشوارع، وإحداث توازن إستراتيجي، واستخدام الدعاية والإعلان ضده لإضعاف معنوياته، ومعنويات قادته وزيادة الضغوط عليهم.
.. بينما يمثل أكبر هزيمة للجيش الصهيوني المحتل ودولته المزعومة
– الضغط الدولي والإقليمي: اعتمدت المقاومة على الضغوط الدولية والإقليمية، خاصة من الدول العربية والأمم المتحدة، لحث دولة الكيان على قبول التهدئة وإجبارها على التنازل.
الحيل التي استخدمها الكيان لفرض شروطه:
– الضغط العسكري المكثف: من خلال التفوق العسكري وتكثيف الهجمات على مواقع المقاومة، على أمل إضعاف موقفها التفاوضي وتحقيق مكاسب تفاوضية.
– الضغط على القوى الدولية: سعت دولة الكيان إلى التأثير على القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لضمان تأييدها لسياساتها، وخاصة فيما يتعلق بمطالبها الأمنية.
– التفاوض من أجل وقف مؤقت: دولة الكيان كانت تسعى لإيقاف القتال جزئياً لتحرير الأسرى مع ضمان العودة للقتال والضغط لتحقيق أهداف الحرب، مع الحفاظ استمرار الحرب.
وختاماً، لا يمكن إغفال الدور الكبير الذي مارسته الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة الرئيس الجديد دونالد ترمب الذي استخدم تهديداته النارية في تسريع المفاوضات، ووقف التصعيد، والوصول لوقف إطلاق النار والتوصل إلى اتفاق سياسي طويل الأمد، ليس من أجل غزة وضحاياها، بل لأنها تسعى إلى الحفاظ على استقرار المنطقة وضمان مصالحها الإستراتيجية.