روى الإمام مسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر حديث الإسراء والمعراج، وفصّل القول في دخول السماوات، وفي كل سماء يقول: «فاستفتح جبريلُ، فقيل: من أنت؟ قال: جبريلُ، قيل: ومَن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففُتِح لنا..»، وهكذا في كل سماء يجدون من أهلها ترحيباً وثناءً، حتى وصل إلى سدرة المنتهى.
وفي هذا ما يدعو إلى الاستئذان عند طلب دخول الإنسان إلى أي مكان مغلق، وهذا الاستئذان واجب شرعي، لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النور: 27)، وللاستئذان آداب يجب الالتزام بها حتى يتحقق المقصد منه، وهو صيانة الحرمات وستر العورات، ويتبين ذلك فيما يأتي:
1- الإذن مسبقاً قبل الزيارة:
وذلك لعموم قوله تعالى: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) (النور: 27)، ولأن الزيارة تحتاج إلى إعداد البيت، وتجهيز واجب الضيافة، وتهيئة الأسرة لاستقبال الضيف، فإذا حدد الزائر موعداً، واستأذن به؛ فإن هذا يكون أدعى لحسن استقباله والاستئناس به.
2- عدم الذهاب قبل الوقت المحدد أو الانتظار بعد انتهاء المدة:
حيث إن تحديد موعد للزيارة يوجِب الالتزام به، وعدم التبكير عنه، حتى يتهيأ لأهل البيت إعداده وتجهيزه، كما أنه إذا انتهى من الزيارة فإنه ينصرف، ولا يجلس بلا داع، فإن ذلك يكون مرهقاً لأهل البيت.
وقد جاء هذا التوجيه بصفة خاصة لبعض الناس الذين أتوا بيت النبي صلى الله عليه وسلم وظلوا فيه بعد انتهاء الطعام، وقد أمرهم الله تعالى بالانصراف، والآية وإن نزلت في هؤلاء إلا أنها عامة في جميع المواقف، وفيها يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) (الأحزاب: 53).
3- عدم دخول آخرين إلى البيت إلا بإذن صاحبه:
روى البخاري عن عقبة بن عمرو قال: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ يُكْنَى أبَا شُعَيْبٍ، فَقالَ لِغُلَامٍ له قَصَّابٍ: اجْعَلْ لي طَعَامًا يَكْفِي خَمْسَةً؛ فإنِّي أُرِيدُ أنْ أدْعُوَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ؛ فإنِّي قدْ عَرَفْتُ في وجْهِهِ الجُوعَ، فَدَعَاهُمْ، فَجَاءَ معهُمْ رَجُلٌ، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّ هذا قدْ تَبِعَنَا، فإنْ شِئْتَ أنْ تَأْذَنَ له فَأْذَنْ له، وإنْ شِئْتَ أنْ يَرْجِعَ رَجَعَ»، فَقالَ: لَا، بَلْ قدْ أذِنْتُ له.
4- التجمُّل للزيارة:
في كتاب «حياة الصحابة»، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الوفد لبس أجمل ثيابه وأمر أصحابه بذلك، وقد أورد الذهبي في «سير أعلام النبلاء» أن أَبَا العَالِيَةِ قال: زَارَنِي عَبْدُ الكَرِيْمِ أَبُو أُمَيَّةَ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ صُوْفٌ فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا زِيُّ الرُّهْبَانِ، إِنَّ المُسْلِمِيْنَ إِذَا تَزَاوَرُوا، تَجَمَّلُوا.
5- عدم الوقوف مباشرة أمام الباب:
إن الوقوف في وجه الباب مباشرة قد يؤدي إلى كشف ما في البيت عند فتحه، وقد شرع الاستئذان لصيانة البيوت عن النظر إلى ما لا ينبغي؛ لذا كان من الواجب على المسلم ألا يستقبل الباب، بل يقف في جانب منه، سواء كان على اليمين أم الشمال.
روى أبو داود عن عبدالله بن بسر قال: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أتى بابَ قومٍ لم يستقبلِ البابَ من تلقاءِ وجهِه، ولكن من ركنِه الأيمنِ أو الأيسرِ، ويقولُ: «السلامُ عليكمُ السلامُ عليكمُ»؛ وذلك أن الدورَ لم يكن عليها يومئذٍ ستورٌ.
وروى البخاري عن سهل بن سعد الساعدي أنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ في جُحْرٍ في بَابِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ به رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: «لو أعْلَمُ أنَّكَ تَنْتَظِرُنِي، لَطَعَنْتُ به في عَيْنَيْكَ، إنَّما جُعِلَ الإذْنُ مِن قِبَلِ البَصَرِ».
وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ اطَّلَعَ في بَيْتِ قَوْمٍ بغيرِ إذْنِهِمْ، فقَدْ حَلَّ لهمْ أنْ يَفْقَؤُوا عَيْنَهُ».
6- الاستئذان بلطف 3 مرات فإن أذن له وإلا رجع:
يجب أن يطرق المستأذن الباب أو يدق الجرس بلطف، فإن هذا من الاستئناس الذي أمر الله به، كما يجب أن يستأذن 3 مرات، بين كل مرة وأخرى مدة تسمح بصلاة ركعتين خفيفتين، كما أشار إلى ذلك الفقهاء، وحتى يتيسر لأهل البيت إذا كانوا في صلاة أو حاجة أن ينتهوا منها، فإذا استأذن المسلم 3 مرات، ولم يؤذن له؛ فإنه يرجع (وينسحب هذا أيضاً على الهاتف كما هو على البيوت).
وفي هذا، روى الإمام مسلم عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ، وَإِلَّا فَارْجِعْ»، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بنفسه، حيث روى أبو داود، وأحمد عن قيس بن سعد بن عباده، قَالَ: زَارَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِنَا، فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ»، قَالَ: فَرَدَّ سَعْدٌ رَدًّا خَفِيًّا، قَالَ قَيْسٌ: فَقُلْتُ: أَلَا تَأْذَنُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: ذَرْهُ يُكْثِرْ عَلَيْنَا مِنَ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ»، فَرَدَّ سَعْدٌ رَدًّا خَفِيًّا، فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّبَعَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ تَسْلِيمَكَ، وَأَرُدُّ عَلَيْكَ رَدًّا خَفِيًّا لِتُكْثِرَ عَلَيْنَا مِنَ السَّلَامِ، قَالَ: فَانْصَرَفَ مَعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا له.
7- يعرِّف نفسه على الباب بوضوح:
حين يستأذن الإنسان على بيت من البيوت، أو هاتف من الهواتف، فيسأل صاحب البيت: مَن الطارق؟ هنا يجيب بعض الناس بقول: «أنا»، وهذا لم يعط وضوحاً، فصاحب البيت لم يعرف من أنت، وهنا يجب على المستأذن أن يعرف نفسه بوضوح، حتى يقرر صاحب البيت قراره.
كما أن قول «أنا» فقط قد يوحي بتعظيم الشخص نفسه، وهذا منهيّ عنه.
فقد روى البخاري عن جابر بن عبدالله قال: أَتَيْتُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في دَيْنٍ كانَ علَى أبِي، فَدَقَقْتُ البَابَ، فَقالَ: «مَن ذَا؟»، فَقُلتُ: أنَا، فَقالَ: «أنَا أنَا!»، كَأنَّهُ كَرِهَهَا.
8- الابتسام للقادم والترحيب به ومناداته بأحب الأسماء إليه:
من آداب الاستئذان أن يبتسم صاحب البيت في وجه القادم إليه ويرحب به ويناديه بأحب الأسماء والألقاب إليه، فقد جاء هذا في حديث المعراج الذي بدأنا به، فكل نبي من الأنبياء كان يرحب بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وسيدنا جبريل عليه السلام، وينادون النبي صلى الله عليه وسلم بأحب الأسماء والمقامات إليه، فيقولون: «مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح»، وهذا الترحيب يشيع الأنس بين الناس.